في ذكراه الخامسة بعد المائة.. “بلفور” بين المسار والمصير

التصنيفات : |
نوفمبر 2, 2022 8:20 ص

*أحمد حسن

لا حاجة لنا، كعرب، في سرد تاريخي لقصة “وعد بلفور المشؤوم” الشهيرة، فكلنا بعد مائة وخمسة أعوام على صدوره نعرف عنه ما يكفي.

لكن ربما ما نجهله، أو نتجاهله، أنّه كان ولا زال وعداً مؤسساً لخراب عميم، فقد كان من جهة أولى مولّداً لسواه مما يشبهه ويدور في فلكه، وقاطعاً الطريق، من جهة ثانية، أمام ما يخالفه ويعاكسه، أي أنّ السير آرثر بلفور وزير خارجية المملكة المتحدة الذي وجّه هذا الوعد يوم 2 تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1917 إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد، أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني، وذلك لنقلها إلى الاتحاد الصهيوني لبريطانيا العُظمى وإيرلندا، وإن كان بذلك يؤسس لجريمة العصر، إلا أنّه كان يؤسس أيضاً لسلسة وعود متتالية أطلقها كل رؤساء أمريكا، وارثة تركة حكومة صاحب الجلالة، بحماية نِتاج هذا الوعد وجعله الأقوى من جميع أعدائه، بل وأسس أيضاً لكل “وعود” السلالات الحاكمة عربياً برعاية “اليهود المساكين” والتي انتهت إلى “فعل” باتفاقيات “أبراهام” الشهيرة.

بيد أنّ “الوعد” لم يكتفِ بهذا الدور بل لعب أيضاً دور قاطع الطريق على وعود بريطانيا ذاتها للشريف حسين والتي حملت اسم مراسلات حسين – مكماهون، ولقيت بالتالي، وكما يعرف الجميع، مصيراً بائساً في سلة مهملات التاريخ، لتكون أيضاً مولّدة لسواها من الوعود الغربية للعرب والتي تلقى لحظة صدورها مصير “المراسلات” ذاته.

حكومة صاحبة الجلالة كانت تبحث أيضاً عن حل لمعضلة عدم وجود مجموعة بشرية مناسبة تعتمد عليها في منطقتنا مقابل النفوذ الفرنسي الذي ينمو في فلسطين والشرق الأوسط

لكن ما يجب الإشارة إليه في هذه الذكرى هو بعض المخاتلة اللغوية الواردة في نصّ “الوعد”، فحكومة صاحب الجلالة لم تنظر بـ”عين العطف” فقط إلى “إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”، بل كانت تنظر بـ”عين المصلحة” الخاصة أيضاً وأولا، لأنّها، وهي تحاول مثل كل الأوروبيين إيجاد حل للمعضلة اليهودية، فقد كانت تبحث أيضاً عن حل لمعضلة عدم وجود مجموعة بشرية مناسبة تعتمد عليها في منطقتنا “مقابل النفوذ الفرنسي الذي ينمو في فلسطين والشرق الأوسط عموماً كحامية للمجتمعات الكاثوليكية، كما بدأ النفوذ الروسي أيضاً بالنمو باعتبار روسيا حامية للأرثوذوكس الشرقيين في ذات المناطق”.

وفي سبيل ذلك، تمّت التضحية بفلسطين الجغرافيا والشعب على مذبح الإمبراطورية وذلك ما كشفته صراحة مذكرة “بلفور” إلى الحكومة البريطانية في آب/ أغسطس 1919 التي نصّت حرفيا: “نحن في فلسطين لا نرى حتى التمسك بالشكل في استشارة رغبات السكان الحاليين في فلسطين، وإن كانت اللجنة الأمريكية قد شرعت في سؤالهم عن رغباتهم. فقد التزمت الدول الأربع الكبرى بعهودها تجاه الصهيونية، ولا ريب في أنّ الصهيونية سواء أكانت على حقّ أم على باطل، وسواء أكانت طيبة أم شريرة، عميقة الجذور في تقاليدنا وفي حاجاتنا الراهنة، وفي آمالنا المقبلة، وهي أكثر أهمية لنا من رغبات السبعمائة ألف من العرب الذين يقيمون الآن في البلاد العريقة وأهوائهم”.

في الضفة الآن رجال تقدّم دماءها لتُنبتَ فكرة “الفاعل” في الأرض الفلسطينية، وهذه الفكرة وحدها من ستُحيل “بلفور” ووعده المشؤوم إلى مكانه الطبيعي في كتب التاريخ فقط لا غير

بيد أنّ ما يجب الإضاءة عليه أكثر هذه الآونة، كونه يرتبط بشدة مع واقعنا الحالي، أنّ الصهاينة كانوا حينها فاعلاً هاماً في بريطانيا وسياستها، في ما كان العرب، والفلسطينيون منهم، موضوعاً مفعولاً به كإرث لـ”الرجل المريض” يجب تقسيمه بين الورثة -أولئك المنتصرون في الحرب- أي أنّ الفرق كان بين فاعل ومفعول به، وكان هذا الفاعل يدرس خطواته ويتابع مخططه بجدية تامة فقد “ناقشت الحكومة البريطانية لأول مرة الصهيونية في لقاء وقع في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1914، بعد أربع أيام من إعلان بريطانيا للحرب على الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تدير أرض فلسطين تحت اسم متصرفية القدس”، وخلال ذلك اللقاء أشار ديفيد لويد جورج مستشار الخزانة آنذاك، إلى “مصير فلسطين النهائي” وكانت شركة “المستشار لويد جورج وشركاؤه” قد انخرطت قبل عقد من الزمن بالاتحاد الصهيوني لبريطانيا العُظمى وإيرلندا للعمل على مخطط أوغندا، وسيصبح هذا المستشار في ما بعد رئيساً للوزراء في وقت إعلان وعد بلفور، ويُعتبر المسؤول عن الإعلان”.

إذا، كان “الفاعل” الصهيوني يحضّر الأجواء، والرجال، لتنفيذ مشروعه بداية وحمايته نهاية، فعندما أحس ببدء غروب شمس الإمبراطورية البريطانية نقل “البيض” فوراً إلى السلة الأمريكية الواعدة والجاهزة لاستكمال الدور بسبب المصلحة البريطانية ذاتها، في ما كان “المفعول به” العربي في حالة لا تسرّ صديقاً ولا تخيف عدوا.

بالمحصّلة، عاشت هذه القسمة زمناً طويلاً تجاوز المائة عام ونيّف حتى الآن، معتمدة على قوة الفاعل وعلاقاته، وضعف المفعول به وتشتت قواه وإشغاله، حتى من قِبل الأشقاء، بمعارك جانبية، بيد أنّ ما نراه اليوم من تحوّل عالمي في موازين القوى وتطور في الوعي الفلسطيني الشعبي لتجاوز حالة “المفعول به” تُنبئ أنّ القادم مختلف، فالرجال هم من يصنع التاريخ ويكتبه، وفي الضفة الآن رجال تقدّم دماءها لتُنبتَ فكرة “الفاعل” في الأرض الفلسطينية، وهذه الفكرة وحدها من ستحيل “بلفور” ووعده المشؤوم إلى مكانه الطبيعي في كتب التاريخ فقط لا غير.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,