الفصائل الفلسطينية وفولكلور المصالحة

التصنيفات : |
نوفمبر 7, 2022 8:29 ص

*رامي سلّوم

تظهر ردود فعل الشارع الفلسطيني “غير المبالية” بنتائج المصالحة الوطنية الفلسطينية الأخيرة مدى ضعف ثقته بالفصائل ومشروعها الوطني، على أفضل تعبير.

 فالشارع الفلسطيني في الداخل والشتات، يدرك جلياً أنّ تطبيق بنود المصالحة الوطنية لا يتحملها إلا أصحاب مشروع وطني حقيقي وسياسيين فلسطينيين قادرين على التضحية بالمكاسب السياسية الفئوية القائمة، لتحقيق المصلحة الفلسطينية، وهو الأمر الذي أظهرت ممارسات بعض الفصائل على مدى أكثر من عقد خلافه تماما.

وعلى الرغم من العوامل المتعددة التي تقف وراء عدم انعكاس المصالحة على الشارع الفلسطيني، بات لزاماً التفات الفصائل إلى واقع الرأي العام الداخلي، فالغليان الشعبي الواسع المعزز شبابياً في الأراضي المحتلة، وقرب وصول اليمين المتطرف مجدداً إلى رأس حكومة الكيان الصهيوني بقيادة “نتنياهو”، والمرحلة المصيرية الجديدة التي تمر بها القضية الفلسطينية اليوم، جميعها تفرض تعاملاً حذراً من الفصائل مع الشارع قبل قلب التوازنات والدخول في فوضى اللاتنظيم، الأمر الذي تتحمله تلك الفصائل بفشلها المتكرر في تطبيق بنود المصالحات السابقة.

ويفرض توقيع المصالحة بحد ذاته “بين يوم وليلة”، وذلك بعد توقعات بأن تأخذ المشاورات مداها الزمني المطلوب، مساراً جديداً لعشرات إشارات الاستفهام، خصوصاً أنّ الاتفاق تمّ على الرغم من ملفات وأجندات واسعة تحتاج لبحث حقيقي للتوصل لإطار عام ومنهجية واضحة للإدارة الفلسطينية في حال تطبيق بنود المصالحة، والتي تتعلق بنهج واستراتيجيات الفصائل الموقعة والتي تختلف عن بعضها جذريا، ما يرفع التوقعات بسطحية هذه المصالحة ومصيرها للإنهيار كما غيرها.

تضليل الشارع

وكانت الفصائل الفلسطينية قد وقّعت منذ أسابيع إعلان الجزائر لإنهاء الانقسام الفلسطيني وتحقيق الوحدة الوطنية، والذي يتضمن انتخاب مجلس وطني لمنظمة التحرير الفلسطينية خلال عام واحد من توقيع الإعلان، واعتبار المنظمة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وإجراء انتخابات عامة، رئاسية وتشريعية خلال عام واحد في جميع المناطق الفلسطينية المحتلة، بما فيها مدينة القدس، وتفعيل آلية العمل للأمناء العامين للفصائل، وتولي فريق عمل جزائري – عربي مشترك الإشراف وتنفيذ بنود هذا الاتفاق، بإدارة جزائرية.

الاتفاق يمكن وصفه باتفاق مراضاة وكسب أموال من الدولة المضيفة وإضاعة للوقت، ومحاولة تضليل من قِبل بعض الفصائل للشارع بعد شعورها بانفلات الحبل من يديها وانتعاش عمل مقاوم لا يستجيب لأجنداتها

وذلك من دون الالتفات إلى التفاصيل التي يقبع الشيطان خلفها، ومسألة القدس وكيفية إجراء الانتخابات، وانتخابات المجلس الوطني المتعذّر القيام بها في التجمعات الفلسطينية داخل ما كان يُعرف باسم دول الطوق، وغيرها من الأمور التي سنفرد لها حيّزاً مهماً في هذة المقالة، مع الوقوف الوجداني الكامل مع المصالحة والأمل بمستقبل وطني حقيقي لفلسطين الصامدة التي تعاني من أكبر جريمة أممية في التاريخ القديم والمعاصر.

فالاتفاق بنظر كثيرين يمكن وصفه باتفاق مراضاة وكسب أموال من الدولة المضيفة وإضاعة للوقت، ومحاولة تضليل من قِبل بعض الفصائل للشارع بعد شعورها بانفلات الحبل من يديها وانتعاش عمل مقاوم لا يستجيب لأجنداتها، وبالتالي فقدت وزنها أمام المشغلين وأموالهم التي لن تُدفع إلا لتنفيذ أجندات وتحريك سياسي معين وقت ما تريد.

15 عاما ً

بات الاختلاف في أجندات ومنهجيات الفصائل الفلسطينية، ورؤيتها الفكرية للقضية الفلسطينية والاحتلال، كما فهمها المتباين للمقاومة، معروفاً وراسخاً، واتخذت هذه الفصائل مسارات مغلقة ومنفردة عن بعضها البعض تعتمد على الاستقطاب، ورهن الشارع المؤيد لها، من خلال الحشد والتعبئة وتأجيج المشاعر وبث الكراهية، ودعايات التخوين، وغيرها، على مدى أكثر من 15 عاماً من الانقسام ثبّتت ما ثبّتته.

ويرى مراقبون أنّ السؤال الأهم الذي يبرز هنا، هو: منْ من تلك الفصائل قدّم التنازلات المطلوبة وعدّل منهجيته ورؤيته للحاق بالفريق الآخر والإندماج معه؟، أو على الأقل التوصل لصيغة مشتركة ملائمة لمختلف الأطراف، خصوصاً مع وجود فصيلين أساسيين في المعادلة، هما حركتا فتح وحماس، وغرق السلطة (فتح) بوحول اتفاقيات الضفة وأوسلو وصولاً إلى التنسيق الكامل، بل و”العمالة” كما يصفها العديد من المنظّرين السياسيين الفلسطينيين، مقابل “حماس” الرافضة لأي فكر آخر، بتوجهها الديني الذي لا يتلاءم مع رغبات الجميع، وتحديداً  في ما يُعرف بالإسلام السياسي والولاءات للإخوان المسلمين، وارتباطاتها الإقليمية.

اليقين الشعبي بأنّ أحداً من الفصائل لن يستغنيَ أو يخفّض حصته في الكعكة، أو يضحي بإرث القبيلة، وأيديولوجيا التنظيمات وما بُنيت عليه القواعد والقيادات المتوسطة والصغيرة

كل ذلك، وفقاً للمراقبين، مع بقاء البنية التنظيمية والحزبية للفصائل، والمكتسبات السياسية وأموال المساعدات والداعمين، على رأس معوقات الوصول إلى التلاحم المطلوب.. ما عزز اليقين الشعبي بأنّ أحداً من الفصائل لن يستغنيَ أو يخفّض حصته في الكعكة، أو يضحي بإرث القبيلة، وأيديولوجيا التنظيمات وما بُنيت عليه القواعد والقيادات المتوسطة والصغيرة، وهو مع كل توصيفنا الباهت له غير أنّه يهدد جدياً بشقاق داخلي وانقلابات خطيرة ضمن التنظيمات نفسها، وليس ما يظهر حالياً من معارضة داخلية ضمن الفصائل نفسها لتحالفاتها الإقليمية الجديدة، وعبر أجنحة كبيرة ومؤثرة فيها إلا غيض من فيض الداخل.

بين نارين (إجتماعيا)

لم يرغب المراقبون الذين استطلعنا آراءهم بعرض أسمائهم بوضوح لاعتبارات كثيرة، غير أنّهم لفتوا إلى مسألة هامة للغاية لدى الشارع الفلسطيني الوطني الغير المنضوي تحت أي جناح أو أجندة سياسية على اعتبار أنّه الأوسع انتشارا، والذي يُحجّم الواقع خياراته في مشروعين، ضمن سياستين قد تكونان مرفوضتين لدى الغالبية، فإما مشروع السلطة المستأثرة بـ”فتح” واتفاقاتها الأمنية، وأزلامها في الداخل، أو المقاومة (التي تحتاج إلى تأكيد) من قِبل “حماس”، في ظل البطش والقبضة الأمنية نفسها، ما يجعل كثيرين لا يميلون إلى تحريك المياه الراكدة، فالغالبية أو على الأقل نسبة رائجة من الفلسطينيين لا ترغب بإدارة تغيير في البنية الإجتماعية والمعيشية لحياتهم بقدر التغيير السياسي والعملياتي في القضية.

واعتبر المراقبون أنّ استطلاعات رأي حقيقية بيّنت بوضوح أنّ شعبية “حماس” في الضفة تفوق شعبيتها في غزة، والعكس صحيح أيضا، فشعبية “فتح” في غزة أكبر من شعبية “حماس”، ما يدل على شعور الضياع والفراغ لدى الشارع والذي تعجز سياسات الفصائل عن ملئه، فرفض حالة سياسية لتنظيم أو نقدها لا يستوجب الانتقال بالحالة الإجتماعية في ظل المقدرات الضئيلة للفصائل الأخرى وعدم وجود مشروع حقيقي لها.

السياسات

منذ عام 1968 برز في فلسطين وجهتا نظر حول المقاومة والكفاح، فالأولى هي مشروع المقاومة في إطارها العسكري الشعبي المعروف، والثانية تمر عبر اتفاق لتأمين وجود دولة فلسطينية ينطلق العمل المقاوم بشقّيه السياسي والمسلح منها، على اعتبار أهمية التواجد الدولي الحقيقي للدولة الفلسطينية للمطالبة بحقوق مواطنيها أمر لازم في ظل فهم سياسة النفاق الغربي ومعطيات وجود الاحتلال من وعد بلفور وصولاً إلى الضمانة الأممية بذلك وغيرها.

فقد ظهر في عام 1968 مشروع أحمد نصيري والذي حاربته “فتح” نفسها في وقتها، ومن ثم المجلس المحلي عام 1974 الذي أكد على ضرورة الحوار، وما طرحه حسين عبد الكريم (أبو ليلى)، وهو نفسه ما عرضه جورج حبش عن أهمية تشكيل الدولة ولو على متر واحد، ليتمّ العمل على استعادة الأراضي بعدها، وجميع تلك المشاريع أكدت على ضرورة الحل بما يعني قبول التفاوض في وقت كان الحديث عن أي تفاوض أو اعتراف أو تهاون جريمة وخيانة.

ولا نُجرّم أو نُخوّن تلك الطروحات وقتها، ولا نحاكمها على اعتبارات الرؤية الوطنية التي ربما كانت خلفها والفهم السياسي للواقع، غير أنّها في النهاية أفرزت مشروعين سياسيين أحدهما انتهج الاتفاقيات والحوار وأغفل المقاومة، والآخر خوّن الأول وأصرّ على المقاومة العسكرية وحدها، ما فتح معركة ومواجهة بين الفصائل الفلسطينية نفسها، ومن ثم الانقسام الكبير، والنزوح باتجاه الاستقطاب والتخوين والمحاصصة!.

قصور في فهم الفصائل للمشروعات السابقة التي تشير قراءتها إلى أنّ العمل المقاوم يتكوّن من مجموعة أنشطة سياسية وإجتماعية وإقتصادية وعسكرية، مع التأكيد على أنّ “إسرائيل” هي عبارة عن حاوية معدنية صدئة لها وجود عسكري، وهي تجمّع عنصري، سيتحول إلى دمية مسلحة فقط  غير قادرة على التحول إلى دولة بفعل عمل شامل ومؤسسات معترف بها قادرة على تفعيل العمل السياسي، وحمايته عسكريا، ما جعل أجندات الفصائل متصادمة وتشابكت مع السنوات بارتباطات واتفاقيات وأحلاف من غير الممكن تركها على الأقل مرحليا.

إنّ مشاركة فصائل فلسطينية في المصالحة باتت نوعاً من الفلكلور الأثري الفارغ أو السلبي ولا يزيد وجودها على الـ100 شخص، غير أنّ بقاءها مرتبط برغبة مشغّليها بوصفها موطئ قدم لهم في الداخل

فولكلور

ومن وجهة نظر مراقبين، فإنّ مشاركة فصائل فلسطينية في المصالحة باتت نوعاً من الفلكلور الأثري الفارغ أو السلبي ولا يزيد وجودها على الـ100 شخص، غير أنّ بقاءها مرتبط برغبة مشغّليها بوصفها موطئ قدم لهم في الداخل، وبالتالي فهي لا تملك قرارها ولا تأثيرها، وتتفاوض بناءً على أمر خارجي، ظهرت تجلياته في إقبال الفصائل جميعها من دون اعتراض على توقيع ما كانت ترفضه قبل ساعات من الأمر، ما يوحي بإشارة خفية، واتفاق أقطاب إقليمية ودولية دفعت بهم وفق مصالحها.

روسيا وأوكرانيا

وبناءً على التوجهات السياسية، يضع مراقبون أسباب عديدة قد تكون مساعدة على التوقيع السريع للمصالحة ومنها الحرب الروسية – الأوكرانية ورغبة روسيا في التضييق على كيان الاحتلال بسبب ممارساته في الحرب ووقوفه بجانب أوكرانيا، وبالتالي اللعب على حبل الفصائل بوصفه أداة ضغط وتوتير سياسي في الداخل.

الغاز

الغاز اللبناني واتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و”إسرائيل” في ظل واقع تضخم عالمي وأزمة إقتصادية جادة، وحاجة الكيان الماسة إلى الغاز، ربما حرّكت بدورها الولايات المتحدة واللوبيات الصهيونية في العالم لمحاولة إيجاد بنية سياسية تهدّئ من التماسات أي معركة قريبة أو عمليات قد تنتقل بسرعة إلى عضائد المقاومة المنتشرة على مختلف الجبهات ومنها حزب الله.

كما أنّ منابع الثروات البترولية تتطلب حماية وعوامل سياسية مستقرة وفقاً لما أُدرجت عليه العادة، ما قد يشكّل دفعاً باتجاه المصالحات من قِبل لاعبين دوليين كبار.

النفوس

على الفصائل الفلسطينية، سواءً نجحت المصالحة أو فشلت، العمل على صيغ مختلفة في الشارع وزيادة التقارب الفلسطيني الإجتماعي وشطب الاستقطاب والتخوين من دعاياتها، فالشارع وحده هو صمّام الأمان والصمود، والقادر على منح أي سياسة أو أيديولوجيا شرعيتها، ووزنها.

فالشعور العدائي ورفض الآخر بات طبيعياً بين عناصر الفصائل التي من المفترض أنّها تعمل لهدف واحد ضمن سياسات أو مسميات مختلفة، وبأدوات مختلفة، حتى وصل الأمر في بعض الأحيان إلى اشتباكات مسلحة وسقوط شهداء من الفصائل على أيدي بعضها، والتي لا داعي لنذكّرَ بها اليوم.

ختاما، نأمل أن تتمّ معالجة جميع الجوانب والمعوقات وصولاً إلى قرار فلسطيني جامع، وإلا فسيظهر للشعب الفلسطيني كما العربي أنّ قيادات الفصائل تشتري الوقت على أمل تغيير ما كما في حالتي “فتح” و”حماس” وما حصل بينهما مرارا، “اتفاق مكة” مثال.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , ,