عن الذاكرة “الملتصقة” بجدران القضية!

التصنيفات : |
نوفمبر 9, 2022 6:57 ص

*فاطمة شاهين

“يوميّا تُمَزّق الملصقات في شوارع مدن العالم بأيدي أشخاص يعترضون على الرسائل التي تعرضها. لكن قد لا يكتفي المرء بجرح ملصق بسكين أو حربة، قد يقتضي الأمر محاولة قتل الملصق”(1).

الملصق إذا، هذا الشكل البصري من أشكال التعبير، ليس مجرد ورقة تحمل رسالةً ما، ملصقة على جدار، بل إنّه وسيلة تحريض، هذا التحريض يمكن أن يكون اعلانياً تجاريا، ومع الملصق الثقافي والسياسي يحمل دوراً أخطر في التوعية حول القضايا الكبرى. فكيف حمل الملصق رمزية ورسائل القضية الفلسطينية، القضية الأعدل في عصرنا الحديث، كيف رافق الانتفاضة والمقاومة بكل رموزها وأحداثها وشهد التحوّلات الكبرى التي طرأت عليها؟.

كانت النكسة، تحريض الولادة!

ينطلق تشكيل الملصق، من التنظيمات والأحداث التي تتطلب التوعية حولها دعايةً وتحريضا، وأيضاً من الإمكانيات الفنية والابداعية ومساحة الحرية المتاحة. يذكر الباحث شفيق رضوان في دراسته حول الملصق الفلسطيني من حيث النشأة والتطور، بأنّه في النصف الأول من القرن العشرين، وفي ما يتعلق بوسائل التحريض البصري، كانت هناك قاعدة إبداعية لفن الدعاية التجارية في فلسطين، وكانت المنشورات السياسية المستخدمة كوسيلة في التحريض الجماهيري، عبارة فقط عن بيانات منسوخة باليد أو مطبوعة بوسائل بدائية. أما الوسائل البصرية في التحريض السياسي، فقد عرفت انبعاثها ونشاطها في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد كان أحد أهم مسببات هذه الانطلاقة، النكسة في العام 1967، واشتعال المقاومة العربية والفلسطينية على أثرها، مما أدى إلى انبعاث الثقافة الوطنية، الأمر الذي ظهر في الشعر، وفي الفن التشكيلي، حيث بدأت تغيب صبغة الحزن الغالبة ليتخذ الفن تجديداً في الوسائل التعبيرية والتشكيلية(2).

“يمكن اعتبار مجلة الثورة الفلسطينية التي ظهرت في دمشق أولا، ثم انتقلت إلى عمان بعد حرب حزيران 1967، الإطار الذي نمت خلاله فكرة الملصق الفني التشكيلي كأداة إعلامية تعبوية مستقلة، فعلى غلاف “الثورة الفلسطينية” وداخل صفحاتها ظهرت الملصقات الأولى لنذير نبعة ومصطفى الحلاج، ثم اتسعت الحلقة لتضم إسماعيل شموط وشفيق رضوان وعبد القادر أرناؤوط وسواهم”(3).

تأسس مكتب الإعلام الموحّد التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت الذي زوّد المنظمة بالأنشطة المرتبطة بالفن من خلال قسم الفنون الجميلة، وكان من ضمن هذه الأنشطة إصدار الملصقات

ومع صعود حركات المقاومة الفلسطينية والتي شهدها لبنان بعد الهزيمة في العام 1967، ومع توفير مدينة بيروت الفضاء الرحب لحركة مزدهرة من الفن الملتزم سياسيا، تأسس مكتب الإعلام الموحّد التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت الذي زوّد المنظمة بالأنشطة المرتبطة بالفن من خلال قسم الفنون الجميلة، وكان من ضمن هذه الأنشطة إصدار الملصقات. وقد تنوّع الفنانون المساهمون في هذا الإنتاج، فكان من الفنانين الفلسطينيين من مارسوا الرسم أمثال سمير سلامة (1944- 2018)، وجومانة الحسيني (1932- 2018)، ومنى السعودي (1945-2022) والسوريين مثل نذير نبعة (1938- 2016) والعراقيين مثل كاظم حيدر (1932- 1985)  والمصريين مثل محي الدين اللباد (1940- 2010)، وحلمي التوني (1934- )،  وغيرهم ممن ساهم في تصميم هذه الملصقات.

وكذلك، فإنّ هذا الإزدهار في حركة الفن الملتزم سياسيا، دفع بالعديد من الفنانين وصانعي الأفلام والمثقفين العرب للمشاركة في صراعات المنطقة، من هنا استعاد الملصق اعتباره بوصفه عملاً فنيا، وتجلى ذلك من خلال إقامة المسابقات والمعارض على مستوى دولي، مثل المعرض الذي نظّمه مكتب الإعلام الموحّد في منظمة التحرير الفلسطينية باسم “المعرض الدولي من أجل فلسطين” في جامعة بيروت العربية في العام 1978، وكذلك المعرض الذي أُقيم أيضاً في نفس المكان بعنوان “معرض الملصقات الفلسطينية 1967-1979″(4).

من النكسة حتى الانتفاضة الأولى، العصر الذهبي!

ليس الملصق ممارسة إبداعية وحسب، بل هو في ما يحمله من رسالة سياسية، وخطابٍ مرتبط بقضية أو صراع، يغدو بحد ذاته مصدراً للدراسات التاريخية والاجتماعية والفنية، وهكذا الأمر بالنسبة للملصقات الفلسطينية. وقد شكّلت الانتفاضة الأولى نقلة نوعية بخصوص انتشار الملصقات وطبيعة محتواها. وكذلك ارتبط تطور الملصق الفلسطيني بتطور الصحافة الفلسطينية(5). وقد حملت من الستينيات حتى بداية الانتفاضة الفلسطينية في العام 1987 من المحتوى ما عبّر عن مختلف جوانب القضية.

نجد الأرض، بشكل ملحوظ، إمّا أنّها موضوع مناسبة مثل “يوم الأرض” أو أنّها خلفية للملصق، للإشارة دوماً إلى رمزية الوطن المحتل والواجب الوطني لتحريره

من حيث المواقع والأماكن، نجد مخيّمات اللاجئين/العائدين، تظهر كرمز للظلم الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني من ناحية التهجير، كما أنّها أيضاً المكان الذي يُبنى فيه الجيش الشعبي. نجد الأرض، بشكل ملحوظ، إمّا أنّها موضوع مناسبة مثل “يوم الأرض” أو أنّها خلفية للملصق، للإشارة دوماً إلى رمزية الوطن المحتل والواجب الوطني لتحريره. وكذلك أماكن المعارك والمجازر، مثل الكرامة، حيث يهيمن على ملصقاتها شخصية المقاتل، وتل الزعتر لتوثيق الحدث وتسليط الضوء على معاناة الضحايا، وكذلك صبرا وشاتيلا، والتي تُظهر دوماً التواطؤ بين الإمبريالية الأمريكية والعسكرة الإسرائيلية، التي يتمّ استحضارها من خلال صور المجزرة الدامية والقاسية.

وننتقل إلى الشخصيات لنجد اللاجىء، الذي يمكن تمييزه في استخدامين، كضحية، وكمقاتل في المخيّمات. أما المحارب وهو المقاتل المسلّح، المنتشر في كل مكان في الملصق، فهو يعبّر عن المقاومة كواجب وطني، ولكن أيضاً يبرز العنصر الحقيقي الذي يربط الأشقاء الفلسطينيين في منطمة التحرير الفلسطينية وهو الكفاح المسلح. أما شخصية الشهيد فهي غالباً ما يتم تصويرها كمقاتل مسلح، ولكن كذلك تُنسب لجميع الضحايا مهما كانت وظائفهم والتي ليس بالضرورة أن تكون عسكرية، فيمكن أن تكون سياسية أو فكرية أيضا. أما المرأة فلا تغيب بطبيعة الحال عن الملصق الفلسطيني، فنجد أنّها رفيقة، وأمّ تحمل طفلا، ومقاتلة، وهي تظهر أكثر تحرّراً في ملصقات فتح، وأكثر تقليدية في ملصقات المنظمات الأخرى. نجد الطفل في الملصقات أيضا، إما هو ضحية، أو مقاتل.

كما نجد في هذه الملصقات رموزا. فالسلاح رمز المقاومة الفلسطينية، يحمله في الملصقات الرجل والمرأة والطفل. كما يظهر الصليب، أحياناً ممتداً على الشكل الجغرافي للأرض الفلسطينية، يستمد معناه من تاريخ فلسطين القديمة، ممثّلاً الإدراك الفلسطيني للمعاناة الوطنية، ودالّاً على معاناة السيد المسيح مع الشعب اليهودي في فلسطين. أما الصليب المعقوف فيرمز لما سعت إليه الرسومات والدعاية في السبعينيات من مساواة الصهيونية بالعنصرية والنازية. كما لا نغفل عن ذكر بعض المفاهيم التجريدية التي نرى عناصرها المختلفة تعبّر عنها مثل الثورة، والكفاح المسلّح(6).

التحوّل الكبير!

إنّه ومع توقيع اتفاقيات أوسلو، وتأسيس السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي الوقت الذي ظهرت فيه القنوات التلفزيونية والفضائيات، بدأ الملصق يتخذ مساراً جديدا. لقد انتشرت في تلك الفترة فنون الرسم على الجدران، وانتشر الملصق  الدعائي والتجاري لتسويق المنتجات والخدمات، أما المحتوى السياسي، فبدأ يقتصر على الإعلان عن الشهداء أو ذكراهم، الاحتجاج على الاعتداءات الاسرائيلية، أو الاعتراض على سياسات السلطة الفلسطينية. أما ما أخذ ينتشر بشكل كبير، إلى حد الاستيلاء على مساحات الملصق، هو فن الغرافيتي والجداريات، وأبرز ما نجده على جدار الفصل العنصري المليء بكل هذه الرسوم الجدارية(7).

أما اليوم، فالموضوع الأكثر تداولاً في صناعة الملصق الإعلاني و بوستر القضية، هو حملات مقاطعة “إسرائيل”

أما اليوم، فالموضوع الأكثر تداولاً في صناعة الملصق الإعلاني و بوستر القضية، هو حملات مقاطعة “إسرائيل” كما يؤكد سمير عبد الله، المخرج السينمائي المصري وصاحب مبادرة “فنانون من أجل فلسطين”(8) .

وفي ما يتعلق بأرشفة وحماية الملصقات، فيمكن القول إنّ الشهيد عز الدين قلق (1936-1978)، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في باريس، هو أول من جمع الملصقات الفلسطينية والتي بلغت حوالي 600 ملصق. ثم تعددت بعدها، أماكن حفظ الملصقات، في أكثر من مكتبة جامعية (جامعة بيرزيت، والجامعة الأميركية في بيروت)، كما في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، والمجموعات الخاصة (أرشيف دان والش)(9).

في حاضرنا، وقد غزت التكنولوجيا العالم، بمجالاته المتنوعة، وبات عنصر التحريك مضافاً إلى الأعمال غير المتحركة، فنجد في كل مكان، اللوحات الإعلانية الكهربائية، التي تنقل لنا الدعاية (سواء كانت تجارية أم سياسية وغيرها) عبر الشاشات، وباتت وسائل التواصل الاجتماعي مساحة لتبادل الإنتاجات الفنية، ولانتشارها الواسع غير المحدود(10). فإنّ عودة الملصق إذاً مع كل هذه الإمكانيات المتقدمة المتاحة، للإنتاج والتوزيع والانتشار إلكترونيا، وكذلك طباعته وتوزيعه ورقيا.. حاجة حقيقية، لأنّ اللغة البصرية أضحت هي الطاغية، بل هي اللغة العالمية، حتى الجدران لا زالت إلى اليوم تحمل قدرة كبيرة على توجيه الرسائل، بدليل انتشار الغرافيتي في زمن الهيمنة الإلكترونية طالما أنّ التصميم يتوجه إلى الشريحة الصحيحة بما يتناسب معها، بالحركية اللازمة، والألوان المناسبة والنص المعبّر.

*كاتبة لبنانية

المراجع

1- طرابلسي، فواز. (2010). الملصقات بوصفها أسلحة [مقدمة]. في: معاصري، زينة. ملامح النزاع: الملصق السياسي في الحرب الأهلية اللبنانية. تقديم فواز طرابلسي ؛ ترجمة عماد شيحة ؛ مراجعة بيار ابي صعب. بيروت: الفرات للنشر والتوزيع.

2- شفيق، رضوان. (1992). الملصق الفلسطيني: مشاكل النشأة والتطور. ]مكان النشر غير محدد[: دائرة الثقافة، منظمة التحرير الفلسطينية.

3- L’affiche palestinienne: Collection d’Ezzeddine Kalak. (1979). [Paris]: Editions Le Sycomore.

4- معاصري، زينة. (2010). ملامح النزاع: الملصق السياسي في الحرب الأهلية اللبنانية. تقديم فواز طرابلسي ؛ ترجمة عماد شيحة ؛ مراجعة بيار ابي صعب. بيروت: الفرات للنشر والتوزيع.

5- عبد الجواد، صالح. (1990). مدخل إلى دراسة المصادر الأولية المكتوبة للانتفاضة. مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 1، العدد 4 (خريف 1990)، ص. 153.

6- Les affiches sur la question palestinienne: Zoom sur le conflit israelo-palestinien dans la collection des affiches de la BDIC. (2020).

مأخوذة من موقع مكتبة La contemporaine:

La contemporaine – Comprendre les mondes contemporains – Les affiches sur la question palestinienne

7- سلطي، رشا. الملصق الفلسطيني: الترويج للمعالم والرموز الوطنية. مأخوذ من:

https://www.palquest.org/ar/highlight/10529/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D8%B5%D9%8E%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A

8- بن حسن، شوقي. (2015). الملصق الفلسطيني: ذاكرة ملوّنة للمقاومة. العربي الجديد، 1 ابريل 2015.

مأخوذ من:

https://www.alaraby.co.uk/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D8%B5%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D8%B0%D8%A7%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D9%85%D9%84%D9%88%D9%91%D9%86%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%88%D9%85%D8%A9

9- سلطي، رشا. مصدر سابق.

10- Dehrashid, Karo Ahmadi. (2021). The place of the poster in the digital era: A thesis submitted to the graduate faculty in partial fulfillment of the requirements for the degree of MASTER OF FINE ARTS, Iowa State University Ames, Iowa.

مأخوذ من:

The Place of Poster in the Digital Era – ProQuest


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , ,