“الأسود” و”الكتائب” والتحديات على الطريق

التصنيفات : |
نوفمبر 14, 2022 6:49 م


*معهد أبحاث الأمن القومي/ يوحنان تسروف

إن الجيل الجديد من منفّذي الهجمات الفلسطينية، مثل “عرين الأسود” لا يؤمن بأنّ أفعاله ستُنهي الاحتلال، لكنّها ستضع القضية الفلسطينية على أجندة “المجتمع الإسرائيلي”، فالتعاطف معهم يخلق الكثير من المقلّدين، لذلك قد تتسع الظاهرة، وفي ضوء الوضع الجديد يجب أن يكون فحص المبادئ التي وجّهت المنظومة الأمنية في عملياتها في المناطق الفلسطينية خلال 55 عاماً من حكمها نصب عيني الحكومة الجديدة.

نجحت “المنظومة الأمنية الإسرائيلية” وبالتعاون مع أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في التعرض لمنظمة “عرين الأسود” المسلحة في نابلس وإضعاف نشاط التنظيم الأقدم بكثير: “كتيبة جنين”، بشكل كبير.

كلاهما يتركان “إرثاً قتاليا” ويسعى الكثير من الشباب في جميع أنحاء الضفة الغربية والقدس الشرقية لتقليدهما، هذا على خلفية فقدان الأمل والطريق، وكذلك احتجاجاً على عمل السلطة الفلسطينية التي تعمل كبلدية تابعة للاحتلال، كما يصفونها.

هذا الإرث تعزز بشكل كبير على خلفية نتائج الانتخابات في “إسرائيل”، والتي أثارت مخاوف من استخدام يد قاسية ضد الفلسطينيين من الآن فصاعداً من قِبل “الحكومة الإسرائيلية” الجديدة وإغلاق الباب أمام الفكرة العملية للاتفاق السياسي.

في ظل غياب جهود ترسيخ الوحدة الفلسطينية الداخلية، وفي ظل ضعف السلطة والمؤسسات الفلسطينية، فمن المرجح أن يتمّ إعادة تنشيط المنظمات من هذا النوع كمجموعات أو أفراد للحفاظ على جو من التصعيد وانعدام الأمن لدى الجانب اليهودي.

ومن هنا، فإنّ المبادئ التي وجّهت المنظومة الأمنية لأكثر من 55 عاماً في الضفة الغربية وقطاع غزة بطريقة تضمن الهدوء في معظمها تتطلب فحصاً ودراسة متجددة من قِبل الحكومة التي سيتم إنشاؤها.

وصل تنظيم “عرين الأسود” المسلح في نابلس إلى نهاية طريقه بعد أسابيع قليلة من بداية نشاطاته، كما تراجع أيضاً في الأسابيع الأخيرة تنظيم “كتيبة جنين”؛ كلاهما لم يصمد أمام الضغوطات التي مارسها عليهم “الجيش الإسرائيلي” وكذلك أمام ضغط أجهزة أمن السلطة الفلسطينية التي نجحت في استيعابهم دون سفك الدماء.

في نابلس، استُشهد بعض من أعضاء التنظيم وسلّم آخرون أنفسهم للأجهزة الأمنية، وفي جنين، استنزف أعضاء التنظيم بشكل مشابه، وهكذا في الواقع وصل التنظيم الأول إلى نهاية طريقه، رغم مظاهر استعراض القوة التي كان يقوم بها وقوله إنّه لا يمكن القضاء عليه، وانخفض حجم نشاط التنظيم في جنين، صاحب الإرث الأطول كمركز للمقاومة.

خلّف التنظيمان “إرثاً قتالياً” ونموذجاً للكثير من الشباب الذين يعملون الآن كمنفّذي عمليات فردية في أماكن مختلفة في الضفة الغربية، ويحاولون التقليد، فالدافع وراء أعمالهم هو الإحباط من الواقع الفلسطيني الداخلي البائس والمتواصل وغياب القيادة، وفقدان الاتجاه والطريق، مما خلق فراغاً يسمح – حسب زعمهم – لـ“إسرائيل” بأن تعمل في المناطق التي تحت سيطرة السلطة الفلسطينية وكأنّها مناطقها.

فتح ومنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، الذين يمثّلون قطباً واحداً من هذا الفراغ، مستمرون رغم ضعفهم الشديد في الارتكاز على ذات القواعد التي تقررت في اتفاقيات أوسلو باعتبارها الفكرة التي تنظّم ضمن ذلك السعي إلى المفاوضات السياسية، والتنسيق الأمني والعلاقات الاقتصادية مع “إسرائيل”.

في المقابل، حماس تريد الحفاظ على قواعد اللعب الجديدة التي تطورت بينها وبين “إسرائيل” في قطاع غزة، والتي جلبت الهدوء إلى سكان المنطقة وتسمح بإعمار وتطوير البنى التحتية في القطاع.

حماس – على ما يبدو، وطالما أنّها ما زالت لا تقدّر بأن السلطة على شفا الانهيار فهي ليست معنية بخرق هذه القواعد والتورط في مواجهة أخرى مع “إسرائيل”، كتلك التي قد تتسبب بالدمار والخراب مرة أخرى في قطاع غزة.

تريد كلاً من السلطة وحماس أن تحافظا على إنجازاتهما، التي تعتمدان عليها في الصراع بينهما، طالما أنّ خيار الوحدة المرجوة بينهما لا يلوح في الأفق

وهكذا، تريد كلاً من السلطة وحماس أن تحافظا على إنجازاتهما، التي تعتمدان عليها في الصراع بينهما، طالما أنّ خيار الوحدة المرجوة بينهما لا يلوح في الأفق.

بناءً على ذلك، فالعمر الافتراضي لأيّ تنظيم مثل “عرين الأسود” قصير، إذ أنّ مصيره هو أن يتحول على الفور إلى هدف لـ”المنظومة الأمنية الإسرائيلية”، وإلى خصم في نظر الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، وبسبب أنّه ليس لديه بنية تحتية تنظيمية أو شخصية، تُفعّل الرسالة التي يريد أن يوصلها من خلال نشاطاته لتصبح رؤية تقدّم للجمهور توجهاً آخر مختلفاً عن التوجه الذي تقترحه القيادتان المخضرمتان في حركتي فتح وحماس، كما أنّ العامل المشترك بين هؤلاء الشباب لا يقوم على أساس رؤية أو ميول سياسية مشتركة، وأي طريقة بديلة يتمّ اقتراحها يمكن أن تفكك التنظيم.

ضعف القيادة وضياع الطريق أخذا في الظهور بعد سنوات قليلة من الانقسام بين قطاع غزة والضفة الغربية، مع فشل عملية أنابوليس، وقد ازدادت إلى حد كبير منذ عام 2015 عندما بدأت تتولى الحكم في “إسرائيل” الحكومات التي تتميز بخط يميني واضح، والتي أزاحت عن جدول أعمالها خيار المفاوضات والاتفاق السياسي، الأمر الذي وضع في الساحة الفلسطينية علامة استفهام بخصوص جدوى الطريق السياسي.

كما أنّ الفساد الذي يتكشّف أكثر كلما تمسكت السلطة الفلسطينية بزمام الحكم هو بمثابة مادة اشتعال متراكمة، وهذا هو الأساس لظهور تنظيم مثل “عرين الأسود”، شباب ليس لديهم قواسم سياسية مشتركة محددة وواضحة، والتأييد الشعبي لنشاطاتهم، والمسيّرات الكثيرة التي قاموا بها، والتغطية الإعلامية الكبيرة التي حظوا بها والانشغال “الإسرائيلي” المكثف بهذه الظاهرة؛ كل هذا زاد من شهرتهم في عيون الكثير من الشباب وحوّلتهم إلى نموذج للاقتداء.

إنّ سلوك عدي التميمي، الذي قتل المجندة “نوعا لازار” على حاجز شعفاط في الـ8 من تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم، ومحمد الجعبري منفّذ العملية من الخليل، الذي قتل “رونين حنانيا” في الـ29 من أكتوبر؛ يشير إلى الاستعداد للتضحية مختلف عن استعداد منفّذي العمليات الاستشهادية الإسلاميين في الماضي، فهم أرادوا أن يرسموا صورة “الأبطال” الذين يتشبثون بالسلاح حتى بعد إصابتهم، المنفّذ الذي قتل المجندة لم يُعثر عليه طوال عشرة أيام، وظهر مرة أخرى عندما حضر لتنفيذ عملية أخرى على بوابة الدخول إلى مستوطنة “معاليه أدوميم” في الـ19 من أكتوبر، لقد استمر في إطلاق النار حتى بعد أن أُصيب بعدد من الرصاصات إلى أن تمّ القضاء عليه، لقد ترك رسالة أوضح فيها أنّ كل مبتغاه أن يشكل قدوة للشباب الآخرين، مع علمه أنّ أعماله لا تستطيع أن تحقّق تحرير فلسطين.

أما الثاني، الذي كان على ما يبدو مرتبطاً بـ”حماس”، أوضح في رسالة تركها أنّه لا يعمل باسم أيّ تنظيم، وأنّ مبتغاه الموت كشهيد، مقابل ذلك، فالمنشور الذي نشره رجال “عرين الأسود” جعلوا منه وكأنّه أكثر من معجزة، واعتبروه واحداً من أسود الخليل.

 في عمليتيْ الدهس الأخريين، اتضح سلوك مشابه من قِبل المهاجمين، الذين استمروا بالعمل حتى بعد أن أُصيبوا: عملية الدهس المزدوج في الـ30 من أكتوبر في النبي موسى وعلى حاجز الموغ القريبين من بعضهما، وعملية دهس الضابط في الجيش الإسرائيلي على حاجز بيت حورون في الـ1 من تشرين الثاني/نوفمبر الحالي.

تكرار عمليات من هذا النوع، إلى جانب الانتقادات الشديدة التي تنهال على السلطة الفلسطينية، بسبب محاولات أبي مازن الأخيرة قضم المزيد من صلاحيات المنظومة القضائية الفلسطينية؛ مثل إقامة مجلس أعلى برئاسته لجميع المنظومات القانونية في السلطة، وقراره بحل نقابة الأطباء المنتخبة دون تفسير مقنع؛ هذا كله يشير من ناحية إلى الفجوة الكبرى بينه وبين الشعب وإلى تمترسه في الحكم، بينما يزداد الغليان ضده وكذلك توقُّع انصرافه.

هذه فترة انتقالية تتميز بالشلل السياسي، وغياب القدرة على العمل على إعادة تأهيل المجتمع والتوقع البائس من جهة خارجية أن تهب وتنقذ “الساحة الإسرائيلية” من فشلها، سيما بعد انتخابات نوفمبر 2022، حيث تعزز الفهم الآخذ في التشكل منذ أمد طويل بين الفلسطينيين بأنّها لن تعترف بهم كشعب له حقّ تقرير المصير، وأنّها ليست معنية إطلاقاً بالدفع نحو حل الدولتين أو أن تعالج بشكل فعال عنف المستوطنين اليهود ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم؛ هكذا تُسهم “إسرائيل” إلى حد كبير في تسريع عمليات التفكك على الساحة الفلسطينية.

أعضاء “عرين الأسود” وأولئك الذين يأتون أو سوف يأتون بعدهم، يريدون القول لـ“إسرائيل” إنّهم يؤمنون بأنّ بمقدورهم طردها من مناطق السلطة الفلسطينية ومن الضفة الغربية، وإنّ كل هدفهم هو أن يضعوا القضية الفلسطينية على جدول أعمال “المجتمع الإسرائيلي”

أعضاء “عرين الأسود” وأولئك الذين يأتون أو سوف يأتون بعدهم، يريدون القول لـ“إسرائيل” إنّهم يؤمنون بأنّ بمقدورهم طردها من مناطق السلطة الفلسطينية ومن الضفة الغربية، وإنّ كل هدفهم هو أن يضعوا القضية الفلسطينية على جدول أعمال “المجتمع الإسرائيلي” خاصة على خلفية نتائج الانتخابات في “إسرائيل”.

أما للسلطة الفلسطينية، فهم يريدون القول لها إنّهم سئموا منها بسبب عملها كمتعاون مع “الاحتلال الإسرائيلي” وأنّه لا يجوز الاستمرار في التنسيق الأمني مع “إسرائيل” دون تجدد العملية السياسية، كما يريدون التأكيد على الحاجة لوضع حد للفساد في مؤسسات السلطة وإيجاد حلول لتشغيل الخريجين الكثر من الجامعات، الذين يبقون بلا عمل وبلا قدرة على تحقيق آمالهم.

منذ قرار أبو مازن في أيار/ مايو 2021 إلغاء انتخابات المجلس التشريعي، تفاقم التدهور في مكانة السلطة الفلسطينية ومكانته الشخصية بشكل ملحوظ، فهو يستمر في الحكم، ومن واقع حقيقة أنّه ليس له بديل متفق عليه، وبسبب عدم القدرة على الاتفاق على بديل، وكذلك بسبب عمل المؤسسات التي تمّ إنشاؤها خلال فترته والتي ترسخت في الوعي العام كعنوان دائم، تستخدم الموارد المادية التي تحت تصرفه لتحافظ على الولاء له.

هل الامتناع لسنوات طويلة عن التحدث مع الفلسطينيين أفاد أمنها؟ وإلى أي حد ردعت الجهات الفلسطينية عن ممارسة المقاومة؟

“إسرائيل” التي كانت هي الأخرى معنية بإلغاء الانتخابات، مطلوبٌ منها الآن على خلفية عدم الوضوح في الساحة الفلسطينية أن تقيّم سياستها من جديد: هل الامتناع لسنوات طويلة عن التحدث مع الفلسطينيين أفاد أمنها؟ وإلى أي حد ردعت الجهات الفلسطينية عن ممارسة المقاومة؟.

هذا التقييم من شأنه أن يشير إلى الحاجة إلى إعادة علاقاتها مع الفلسطينيين، والإعلان عن أبي مازن أو من يحل محله في ما بعد كشريك، وعن الاستعداد لبدء التحدث معه بهدف جلب الاستقرار وصناعة الأمل من جديد في أوساط الفلسطينيين.

الحكومة الجديدة التي ستشَكّل في “إسرائيل” قريبا، والتي يرى مكوّن قوي من مكوّناتها أنّ الفلسطينيين يعيشون غرباء ذوي مكانة ضعيفة، وأنّ عليهم أن يظهروا الولاء والتسليم بحكم “إسرائيل”، وكذلك يعتبرون أنّ استمرار مشروع الإستيطان هو إثبات لوجوده ووجودهم كجهة سياسية، سيكون المطلوب من هذه الحكومة بلا شك دراسة منظومة الاعتبارات التي توجّه المنظومة الأمنية منذ أكثر من 55 سنة في عملياتها في الأراضي الفلسطينية وتعاملها مع السكان الفلسطينيين.

كيف نمنع الاشتباكات العنيفة في أماكن مختلفة في نفس المساحة، في واقع يعيش فيه تجمعان من السكان متعاديان جنباً إلى جنب، حيث الغضب والمشاعر الوطنية الفلسطينية محتدمة على الدوام؟ كيف نمنع اندفاع وثوران جموع الجماهير الفلسطينية غير المسلحة؟.

إن لم تكن “إسرائيل” تنوي الاستجابة لتطلعات الفلسطينيين في المجالات الوطنية والسياسية أو تجدد المحادثات السياسية مع الجانب الفلسطيني؛ عليها أن تقترح بديلاً محترماً أو مشرّفاً يوفر استجابة لتعب الكثير من الفلسطينيين ويأسهم من الواقع الذي يعيشونه، وتطوير ضمّهم في الاقتصاد ومراكز التشغيل “الإسرائيلية” بدرجة ملموسة من المساواة في “الساحة الداخلية الإسرائيلية”.

على الساحة الداخلية في “إسرائيل”، سيتمّ الحكم على الحكومة الجديدة حسب درجة الهدوء التي ستسود في ساحة الصراع والأفق الذي ستخلقه لمستقبلها كدولة يهودية، بينما في المجتمع الدولي سيتمّ الحكم على الحكومة وفقاً لموقفها تجاه السكان الفلسطينيين.

*ترجمة موقع الهدهد


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , ,