مسدس أيالا هو المشهد المتجدد للصهيونية

التصنيفات : |
نوفمبر 25, 2022 9:31 ص

*أمير مخّول

استحوذت مؤخراً على وسائل التواصل الإجتماعي صور النساء المستوطِنات المتدينات وهنّ يتدربن على إطلاق النار من مسدساتهن. كما سبقت ذلك صورة زوجة رئيس حزب عوتسما يهوديت أيالا بن غفير، وهي تحزم مسدسها على خاصرتها، حين كانت في حضرة سارة نتنياهو التي استضافت زوجات قادة الأحزاب المرشحة للائتلاف الحاكم. وهناك من بين الإعلاميين الإسرائيليين مَن رأى في سلوك زوجة بن غفير أنّها تريد أن تقول إنّها صاحبة البيت في الحكم الإسرائيلي، حتى وإن رأت زوجة رئيس الوزراء القادم نتنياهو نفسها بأنّها السيدة الأولى في البيت. وكان إيتمار بن غفير، المرشح لوزارة الأمن الداخلي المسؤولة عن الشرطة والسجون، قد شهر مسدسه في عدة مناسبات في الأعوام الأخيرة، مهدداً الفلسطينيين، ومستهتراً بقوات الأمن الإسرائيلية. وإن كانت دانييلا فايس هي الأكثر بروزاً في تاريخ حركة الاستيطان الصهيوني-ديني وغوش إيمونيم، وبالذات في الثمانينيات والتسعينيات، فإنّنا اليوم بصدد جيل جديد لا يسعى، بمفاهيمه، لحركة استيطان، بل لدولة استيطان سافر.

كما هو معروف، فإنّ جمهور المستوطنين، وبالذات في مدينة الخليل، هم الأكثر رعايةً من جيش الاحتلال ودولته، ومن منظومات الأمن المختلفة، وهم فعلياً محميّون أكثر بالذات حين يقومون باقتحاماتهم واعتداءاتهم على الفلسطينيين، هم والتنظيم الإرهابي نوعر هغفاعوت “فتيان التلال”. تاريخيا، كان الاستيطان ملازماً لبناء القدرة العسكرية والأمن القومي وترسيم حدود سيطرة المشروع الصهيوني، وجزءاً لا يتجزأ من هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني الإحلالي. لكن بخلاف اليوم، فإنّ القوى التي بنت المشروع الصهيوني في فلسطين هي حركة العمل العبرية وتيار العمل، والذي بات اليوم على هامش السياسة الإسرائيلية، فباتت حركة ميرتس (وبالذات مركّبها حزب المبام العمالي) في طي التلاشي، وبات حزب العمل في طور الاضمحلال، وعلى هامش الصهيونية الدينية وحزب عوتسما يهوديت.

تكرار ظاهرة التدرب على حمل السلاح وإطلاق النار من طرف نساء كبيرات في السن، هو أبعد من المسألة الشكلية، إذ إنّ في الرمزية مقولة مهمة، وهي تعود من ناحية إلى التاريخ اليهودي التلمودي، وإلى مشاركة النساء في الهمّ العام اليهودي، بما فيه القتال، وهو مصاغ في “سِفر العدد” (بمدبار) ضمن التوراة،

تكرار ظاهرة التدرب على حمل السلاح وإطلاق النار من طرف نساء كبيرات في السن وبعيدات كثيراً عن جيل الجندية، وأساساً هن لم يخدمن في الجيش من منطلقات دينية، هو أبعد من المسألة الشكلية، إذ إنّ في الرمزية مقولة مهمة، وهي تعود من ناحية إلى التاريخ اليهودي التلمودي، وإلى مشاركة النساء في الهمّ العام اليهودي، بما فيه القتال، وهو مصاغ في “سِفر العدد” (بمدبار) ضمن التوراة، وهذا ما يشغل الشقّ الديني من عقيدة هذا التيار. في المقابل، يجمَع هذا المشهد رموزاً من المشروع الصهيوني الحديث في فلسطين منذ قرن ونصف القرن. ويتعلق الأمر بشخصية الطلائع اليهودية بالمفهوم الصهيوني. منذ نشوء الحركة الصهيونية، انشغلت الأدبيات وكل منظومات التنشئة الإجتماعية المنبثقة منها، ولا تزال منشغلة في بناء اليهودي الجديد، ويشمل الرجال والنساء. وضمن ذلك، انشغلت في بناء الشخصية اليهودية الطلائعية، وبالعبرية حالوتس/ حالوتسيوت، وذلك لتكون على النقيض من شخصية اليهودي الضحية والضعيف والمُهان في مراكز الاعتقال والإبادة النازية، أو اليهودي المطارَد في كل العالم، وأينما وطأت قدماه، فقط لكونه يهوديا، بحسب الرواية الصهيونية.

يرى تيار الصهيونية الدينية أنّه يحمل مشروع الصهيونية المتجدد في هذه الحقبة، ويحمل مشروعاً أقرب إلى الخلاص معا. كما أنّ مشهد النساء المتدينات المستوطنات هو من صور هذا التيار ونفوذه واستحواذه على مساحات واسعة احتلها من التيار العلماني الصهيوني القائم على تجنيد الفتيات للجيش والانشغال في ترقيتهن في كل الوحدات القتالية وسلاح الطيران والمدرعات ووحدات النخبة، وفي الموساد والشاباك. بينما يرفض تيار الصهيونية الدينية أن تتجند النساء التابعات له في الجيش، وإجمالاً هن يتجندنَ في إطار ما يسمى الخدمة القومية، على الرغم من وجود متدينات في الجيش والأجهزة الأمنية. ويرى هذا التيار أنّ دور المرأة في الاستيطان، وفي التزايد الديموغرافي، وفي تجذير قيم التضحية واعتماد الحياة البسيطة، واعتماد شخصية المرأة الباسلة “إيشيت حايل” المستوحاة من الشخصيات النسائية التوراتية.

فإن كانت موجات الهجرة من شرق أوروبا في بداية القرن العشرين تقليدية ومحافظة، وفيها إقصاء لدور المرأة خارج حدود الأسرة والبيت، فقد انعتقت هؤلاء النساء في إطار المشروع الصهيوني في فلسطين حتى وإن حضرت مع تقاليدها، إلا أنّها تغيرت بسرعة ولاءمت نفسها وفق متطلبات المشروع الاستيطاني الاقتصادي والعسكري

لقد تميز المشروع الصهيوني في فلسطين بكونه علمانياً في جوهره، على الرغم من أنّه منح التيارات الدينية حصة وازنة، واعتبر الدين اليهودي الأساس الجامع في مسيرة “بناء الأمة”، وفي مسألة اللغة والموقف من الأغيار، وإعادة اعتماد التقاليد الدينية اليهودية، كل ذلك بالاستناد إلى مفهوم “الوعد الرباني” ومفهوم “أرض إسرائيل”، ولذلك تمّ تخصيص هامش واسع لتياريْ الحريديم والصهيونية الدينية على حد سواء. وقد قارنت العلوم الإجتماعية الإسرائيلية لاحقاً بين مكونات الشخصية اليهودية تبعاً لموجات “الهجرة” (علياه) اليهودية، والتي نظمتها الحركة الصهيونية، إلى فلسطين، بهدف ترسيخ مشروعها الاستيطاني. فإن كانت موجات الهجرة من شرق أوروبا في بداية القرن العشرين تقليدية ومحافظة، وفيها إقصاء لدور المرأة خارج حدود الأسرة والبيت، فقد انعتقت هؤلاء النساء في إطار المشروع الصهيوني في فلسطين حتى وإن حضرت مع تقاليدها، إلا أنّها تغيرت بسرعة ولاءمت نفسها وفق متطلبات المشروع الاستيطاني الاقتصادي والعسكري، بينما لم تكن موجات الهجرة في الثلاثينيات، وبالذات في الأربعينيات، من شرق ومركز وغرب أوروبا، تقليدية محافظة في نمط حياتها، بل تبوأت المرأة حيزاً مهماً في إطار العمل الإنتاجي الزراعي والصناعي والعسكري أيضا، وخدمت في وحدات النخبة من البلماخ وغيرها.. وهنا اختلفت شخصية المرأة اليهودية العلمانية في فلسطين.

تأتي هذه الخلفية المقتضبة لتشير إلى أن التحولات في المشروع الصهيوني الاستعماري رافقتها شخصية مختلفة لـ”لطلائع”، وما نشهده اليوم من حضور بارز للمرأة الصهيونية دينياً هو تأكيد أنّ انقلاب الصورة والمشهد هو امتداد لانقلاب النخب الصهيونية وتحوّلها من الخلفية والهامش إلى مقدمة المشهد. وهذا يجد تعبيراً عنه في الجيش وحصول حزب الصهيونية الدينية على نحو 20% من أصوات الجنود في الانتخابات الأخيرة، وزيادة نفوذ هذا التيار في كل قطاعات وشرائح المجتمع الإسرائيلي، بما في ذلك التيارات العلمانية تقليديا. إنّه أيضاً انقلاب في القيم ونمط الحياة والسلوك الاجتماعي في مرحلة يشهد هذا المجتمع اندفاعاً نحو الفاشية. وما مشهد التدرب على إطلاق النار سوى ترسيخ لذهنية العصابات والميليشيات التي باتت تنتشر بتسارُع كبير في النقب ومدن الساحل الفلسطيني، وفي القدس والخليل وأنحاء الضفة الغربية. وهي ميليشيات مكشوفة تقرّ لها الدولة والجيش والشرطة وظيفة لا يستطيع المستوى الرسمي القيام بممارستها قانونيا. وفي المجمل، نحن بصدد تحوّل الذهنية العنصرية والعصابية إلى بنية فاشية تتعزز في قلب النظام الإسرائيلي الصهيوني حتى تقلبه. بل إنّها انتعشت بقرار من أعلى المستويات الحاكمة: “كل مَن لديه رخصة سلاح، فهذا هو أوان حمل السلاح. المتوقع منكم أن تفتحوا عيونكم. تحلّوا باليقظة وبالمسؤولية”، هذا ما صرّح به رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق نفتالي بينيت في 30 آذار/مارس 2022، وغداة عملية بني براك. بينيت من تيار الصهيونية الدينية الذي تزعّمه سابقا، واليوم يتصدّر سموتريتش وبن غفير ونساء المسدسات وبنية الميليشيات واجهةَ المشهد.

*المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية


وسوم :
, , , , , , , ,