في ذكرى قرار التقسيم.. إرهاصات وآمال

التصنيفات : |
نوفمبر 29, 2022 8:36 ص

*أحمد حسن

منذ خمسة وسبعين عاماً وتحديداً في عام 1947 قرّر العالم، الحرّ والمتحضّر، أن يقسّم فلسطين بين شعبها المتجذّر فيها منذ قرون وقرون وبين فلول عصابات صهيونية جُمّعت من شتى أصقاع الأرض حاملة معها بقايا قصص توراتية غائمة عن وعد إلهي، ووضوح حقيقة استعمارية محمّلة بوعد أرضي من حكومة “جلالة الملك” في لندن.

وإذا كان الهدف الأول للقرار، الذي حمل الرقم (181)، الخلاص النهائي من “المسألة اليهودية” التي أرّقت أوروبا لقرون عديدة سابقة، فإنّ هدفه الثاني، والأهم، تحقيق مصالح الإمبراطورية التي كانت تعيش “حشرجات” غياب الشمس عنها، والتي كانت تبحث أيضاً عن حل لمعضلة عدم وجود مجموعة بشرية مناسبة تعتمد عليها في منطقتنا “مقابل النفوذ الفرنسي الذي ينمو في فلسطين والشرق الأوسط عموماً كحامية للمجتمعات الكاثوليكية، كما بدأ النفوذ الروسي أيضاً بالنمو باعتبار روسيا حامية للأرثوذوكس الشرقيين في ذات المناطق”، وذلك ما أشارت إليه سابقاً مذكرة اللورد “بلفور” إلى الحكومة البريطانية في آب 1919 التي نصّت حرفيا: “نحن في فلسطين لا نرى حتى التمسك بالشكل في استشارة رغبات السكان الحاليين في فلسطين.. ولا ريب في أنّ الصهيونية سواء أكانت على حقّ أم على باطل، وسواء أكانت طيبة أم شريرة، عميقة الجذور في تقاليدنا وفي حاجاتنا الراهنة، وفي آمالنا المقبلة، وهي أكثر أهمية لنا من رغبات السبعمائة ألف من العرب الذين يقيمون الآن في البلاد العريقة وأهوائهم”.

وبالطبع، فإنّ هذا الأمر توافق مع مصالح الإمبراطوريتين البازغتين حينها، الاتحاد السوفياتي الذي كان من أوائل من اعترفوا بـ”إسرائيل”، (ربما على أسس أيديولوجية)، والولايات المتحدة الأمريكية، كما مصالح رجال المال والأعمال العابرين للقارات، وكان من اللافت، في هذا السياق، أنّ الذي ضغط على “ليبيريا” مثلاً لتصوّت مع التقسيم لم يكن سوى المليونير الأمريكي المشهور هارفي صامويل فايرستون صاحب مزارع المطاط في ليبيريا وصاحب مصانع الإطارات المشهورة فايرستون.

وعلى أرضية الصدام بين الحقّ الساطع ولكن غير المستند إلى قوة جاهزة وواعية، وراغبة في مكان ما، والقوة العارية المستندة إلى باطل واضح جرت مياه ودماء كثيرة منذ تلك اللحظة في نهر التاريخ

ومنذ خمسة وسبعين عاما، رفض العرب والصهاينة القرار الأممي التقسيمي. العرب، استناداً إلى حقّهم التاريخي والشرعي بأرضهم كاملة، والصهاينة، استناداً إلى قوة طمعهم بأرض الآخرين، وعلى أرضية الصدام بين الحقّ الساطع ولكن غير المستند إلى قوة جاهزة وواعية، وراغبة في مكان ما -وهذا ما كشفته صفقات السلاح الفاسد و”ماكو أوامر” وخيانات بعض القادة-، والقوة العارية المستندة إلى باطل واضح جرت مياه ودماء كثيرة منذ تلك اللحظة في نهر التاريخ، كانت الغلبة فيها حتى الآن لصالح قوة الباطل، وشهدنا خلالها، كعرب، خسائر جسيمة من قبيل “النكبة” و”النكسة” ثم بداية خروج العرب من الصراع، تارة بحجة القرار الفلسطيني المستقل، وتارة بحجة المصالح الوطنية، فكان “كامب ديفيد” اللحظة الأولى في مسار طويل أوصلنا اليوم إلى “أبراهام”، لكنّ “أوسلو” كانت بلا شك أخطر محطاته الانهزامية.

بدأ العمل على تحطيم فكرة المقاومة ذاتها حيثما وُجدت، وهذا ما يفسر مثلاً الحرب الأهلية اللبنانية لإبعاد منظمة التحرير عن حدود فلسطين، أو الحروب الأهلية العربية اللاحقة

ولأنّ الأمر لم يكن، ومنذ البداية، متعلق بفلسطين فقط، بل بعملية زرع كيان استعماري في قلب منطقتنا يؤدي دور الحاجز البشري الفاصل بين دمشق والقاهرة استلهاماً لدرس “صلاح الدين الأيوبي” وضرورة عدم تكراره، فقد بدأ العمل على تحطيم فكرة المقاومة ذاتها حيثما وُجدت، وهذا ما يفسر مثلاً الحرب الأهلية اللبنانية لإبعاد منظمة التحرير عن حدود فلسطين، أو الحروب الأهلية العربية اللاحقة، وحتى الحروب البينية العربية الغريبة، وربما كان أغرب مثل لها ما فعله السادات عام 1977 حين شنّ غارات “تأديبية”، كما أسماها، لمدة أسبوع كامل على ليبيا إثر “معلومة” إسرائيلية وصلت إليه عبر الموساد بأنّ القذافي يخطط لاغتياله!.

بيد أنّ الوقائع تقول إنّه، وبعد كل هذا الزمن ورغم كل المحاولات المحمومة وخاصة على مستوى “كي” الوعي العربي والتي بُذلت خلالها أغلب عائدات البترودولار، وسُفحت فيها مياه جبين مثقفين وساسة كبار لتبيئة “إسرائيل” في المنطقة، فإنّ المعادلة بقيت واضحة وبسيطة للغاية ومفادها: لا مستقبل طبيعي للمنطقة في ظل بقاء “إسرائيل”، ولا بقاء لـ”إسرائيل” في ظل مستقبل طبيعي للمنطقة.

ذلك مثلاً ما قاله التعامل الشعبي العربي، حتى من مواطني الأنظمة المطبّعة، مع المراسلين “الإسرائيليين” خلال مجريات كأس العالم، التي لا تعني فعلياً سوى نعي شعبي لهمروجة “أبراهام” وأمثالها

ذلك مثلاً ما قاله التعامل الشعبي العربي، حتى من مواطني الأنظمة المطبّعة، مع المراسلين “الإسرائيليين” خلال مجريات كأس العالم، التي لا تعني فعلياً سوى نعي شعبي لهمروجة “أبراهام” وأمثالها.

وذلك أيضاً ما يقوله، وإن من جانب آخر، سيطرة اليمين واليمين المتشدد على الكيان مؤخرا، وفوز “نتنياهو” ثم تعيينه “بن غفير” -وهو ممثل حقيقي لتيار المستوطنين والعقائديين- كوزير لداخليته في هذه المرحلة بما يعني المزيد من القتل والتهجير، فالأمر لا يتعلق بمعطيات انتخابية فقط، بل بحقيقة أنّ “الكيان” يمر في نقطة زمنية حاسمة، ليس على البعد النووي فقط كما قال رئيس أركان جيش العدو، أفيف كوخافي، بل على البعد الوجودي الداخلي أيضاً كما يعرف الجميع، حيث الفلسطينيون، الذين يعرفون أنّ الأمر وجودي بالنسبة لهم أيضا، يعرفون أيضا، بعد كل هذا الزمن، أن لا رهان حقيقي إلا على دمائهم لكتابة حقّهم الساطع على دفاتر المرحلة القادمة.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,