الصهيونية الدينية تزعزع وحدة جيش الاحتلال

التصنيفات : |
ديسمبر 2, 2022 12:57 م

*أحمد الطناني – غزة:

اشتعلت الساحة السياسية في كيان الاحتلال الإسرائيلي بموجة واسعة من تقاذف التصريحات ما بين كبار الصهيونية الدينية وفي مقدمتهم زعيم حزب “عوتسما يهوديت” (إيتمار بن غفير) وبين قيادة وزارة الجيش ورئاسة الأركان على خلفية اعتداء عدد من جنود جيش الاحتلال على مجموعة ناشطين “يساريين إسرائيليين” خلال جولة في مدينة الخليل.

الاعتداء نفّذه أحد جنود الجيش، الذين ينتمون إلى لواء غفعاتي، حيث قام بطرح ناشط أرضاً ثم لكمه وطالبه بمغادرة المكان، مترافقاً مع إطلاق الجندي وزملائه تهديدات للناشطين بأنّ بن غفير الذي سيُعيّن وزيراً للأمن الداخلي في الحكومة الجديدة، سيضع الحد لعمل ناشطي حركات “اليسار الإسرائيلية”.

رئيس أركان جيش الاحتلال (أفيف كوخافي) أدان الاعتداء المذكور، وأكد أنّ الجيش سيجري تحقيقاً بالواقعة، في ما أمر قائد لواء جفعاتي بحبس الجندي لمدة 10 أيام في سجن القاعدة العسكرية.

فجّرت الحادثة في مدينة الخليل النقاش العلني حول العديد من التخوفات والإشارات التي التقطها جنرالات الجيش الحاليين والسابقين حول تنامي ظاهرة الصهيونية الدينية داخل صفوف الجيش، وانعكاس نتائج الانتخابات على طريقة تعامل بعض مفاصل الجيش وقياداته الوسطية المحسوبين على هذا التيار مع الأحداث، خصوصاً بعد التصريحات العلنية لزعماء الصهيونية الدينية حول ضرورة تغيير قواعد إطلاق النار وإطلاق يد الجيش في التعامل مع المستجدات الميدانية.

ازداد التوتر على إثر رسالة بن غفير التي طلب فيها من وزير الجيش (بيني غانتس) زيارة الجندي المعاقب في السجن العسكري مضيفاً فيها أنّه لا يرى أي خطأ في سلوك الجندي تجاه “المتنمرين” معبراً عن أسفه للعقوبة “غير المتناسبة التي وُجّهت إليه”، لتضاف الرسالة إلى جانب العديد من تصريحاته العلنية التي تتناول طريقة عمل الجيش وتتضمن توجيهات واضحة لما يجب أن يكون عليه العمل.

الصهيونية الدينية والجيش

ليس خافياً أنّ الصهيونية الدينية تتمتع بحضور لا يُستهان به بين مجنّدي جيش الاحتلال، حيث يذهب 85% من خريجي المدارس التحضيرية إلى الوحدات القتالية، و30% منهم يصبحون ضباطاً في جيش الاحتلال، ووفقاً لمعطى سبق أن نُشر عام 2007، فقد شكّل المنتمون للتيار الصهيوني الديني، ما نسبته 40% من خريجي دورة الضباط في تلك السنة.

يدفع منظّري الصهيونية الدينية باتجاه أنّ ضلوعهم في قيادة الجيش سيوفر لموقفهم الأيديولوجي المبررات والمسوغات الأمنية، التي عندما تنطلق من فم جنرال ستبدو ذات مصداقية، حيث تكمن مخاطر هيمنة هذا التيار في كونه سيحوّل الصراع إلى صراع ديني، ويحرج المشهد “العلماني” الذي تحاول مؤسسة الجيش الحفاظ عليه، إضافة لتأثيره على مدى التزام الجنود “المتدينين” بتوجيهات قيادتهم المباشرة في حال مخالفة القرارات لقناعاتهم الأيديولوجية.

“ثقرطة الجيش”
مصلح يعني ظاهرة تقويض صلاحية الدولة وقوانينها في مقابل تعزيز صلاحية الشريعة اليهودية وقوانين الدين

يشير الكاتب أنطوان شلحت إلى اعتماد البروفيسور (ياغيل ليفي)، الباحث الإسرائيلي الأبرز المتخصّص في موضوع العلاقة بين الجيش والمجتمع قبل عدة أعوام، لمصطلح “ثقرطة الجيش” كي يصف تأثير حاخامي الصهيونية الدينية، الذين يشغل بعضهم رئاسة المؤسسات التحضيرية للخدمة العسكرية وبعضهم الآخر يحتلّ رئاسة المدارس الدينية، على الجيش، ويقصد بذلك ظاهرة تقويض صلاحية الدولة وقوانينها في مقابل تعزيز صلاحية الشريعة اليهودية وقوانين الدين، إذ أنّه، بحسب رؤية حاخامات، شرعية قوانين الدولة محدودة! وفي حال تناقضها مع قوانين الشريعة اليهودية، كما يفسّرونها، فإنّ الغلبة لقوانين الشريعة.
لطالما أرّق هذا التغلغل كبار جنرالات جيش الاحتلال الحاليين والسابقين، وقد حاولوا تجنيب الجيش الدخول في صراع الأيدولوجيات لصالح الحفاظ على الجيش كمؤسسة “مهنية” بعيداً عن الارتهانات الدينية المتطرفة.
رئيس الأركان الجديد.. خيار غير محبّب لليمين

بذل وزير جيش الاحتلال المنتهية ولايته (بيني غانتس) كل جهده من أجل إنجاز تنسيب رئيس الأركان الجديد لجيش الاحتلال قبل انتهاء ولاية الحكومة، وأخذ تفويضاً خاصاً من المستشار القضائي للحكومة لإجازة اختيار رئيس الأركان عبر حكومة “تسيير الأعمال” بقيادة (يائير لابيد).

إنّ سعي غانتس لإنجاز مهمة تنسيب رئيس الأركان الجديد في الموعد القانوني، يأخذ بُعدين أساسيين: الأول، كان حماية مؤسسة “الجيش” من أي نوع من أنواع الفوضى أو الفراغ القيادي، أو حتى إحراج شرعية رئيس الأركان الحالي كوخافي على اعتبار أنّه سيمضي في موقعه أكثر من المدة القانونية بسبب الأزمة الحكومية.

أما البُعد الثاني في تحرك غانتس، فقد كان مرتبطاً بتعيين رئيس للأركان قريب من مدرسته وتوجهاته السياساتية والعملياتية، وتفويت الفرصة على نتنياهو في فرض مرشحه الجنرال (إيال زامير) الذي يُعتبر موالي ومُقرّب من نتنياهو، وبالتالي هذا السعي كان جزءاً من معركة النفوذ بين أقطاب السياسة في الكيان.

يُعرف عن هاليفي أنّه انطوائي، ولا يتمتع بشخصية كاريزماتية، ويُلقّب بـ”الجنرال الفيلسوف” لحبه للفلسفة، وهو ما لا يعطيه الصبغة المناسبة ليكون قائداً محط إجماع في الجيش الذي بات صفه الوسطي والقاعدي يعاني من نزعة يمينية دينية متطرفة

هذا التعيين، وفي هذه الظروف استدعى هجوماً كبيراً من حزب “الليكود” على تعيين (هرتسي هاليفي) رئيساً للأركان، حيث اتهموه بأنّه رئيس للأركان بتوجهات يسارية، وضعيف وتعيينه غير قانوني.

يُعرف عن هاليفي أنّه انطوائي، ولا يتمتع بشخصية كاريزماتية، ويُلقّب بـ”الجنرال الفيلسوف” لحبه للفلسفة، وهو ما لا يعطيه الصبغة المناسبة ليكون قائداً محط إجماع في الجيش الذي بات صفه الوسطي والقاعدي يعاني من نزعة يمينية دينية متطرفة أصبحت ترى أنّ تيارها السياسي صار في موقع الحكم وأنّ الوقت قد آن للتغيير.

الجنرالات يُصعّدون الخطاب لتحصين الجيش

أمام كل المشهد السابق، واستشعار جنرالات الجيش لبوادر تمدد الخطر مع الإشارات حول مرونة نتنياهو في منح الصلاحيات لقطبي الصهيونية الدينية: بن غفير وسوميترتيش عبر تفويضهم بصلاحيات هي من صلب صلاحيات الجيش مثل نقل حرس الحدود للعمل في الضفة وتشكيل جيش “شعبي” جديد تحت مسؤولية وزارة الأمن القومي التي سيقودها بن غفير، أو حتى نقل صلاحيات “الإدارة المدنية” لتكون تحت مسؤولية سوميترتش.

أعرب وزير جيش الاحتلال بيني غانتس عن مخاوفه على قوة وصلابة “الجيش الإسرائيلي” خلال الفترة القادمة، مضيفا: “إذا تحوّل الحديث الذي نسمعه إلى أفعال، فأنا خائف وقلق جداً من وجود الجيش الإسرائيلي كجيش شعبي”. داعياً إلى عدم لعب ألعاب سياسية خطيرة على “ظهر الجيش”.

في ما حذّر رئيس الأركان أفيف كوخافي من تدخل السياسيين في قرارات قائد الجيش، وندد كوخافي بالهجمات على قادة الجيش في ضوء أحداث اعتداءات جنود جفعاتي على نشطاء في الخليل، موضحاً أنّ أي تدخل سياسي في قرارات القادة أمر خاطئ.

من جانبه قال الرئيس الأسبق لأركان جيش الاحتلال الاسرائيلي (غادي آيزنكوت)، إنّ سلوك الحكومة “الإسرائيلية” القادمة قد يؤدي إلى تفكيك الجيش، معتبراً أنّ سلوك التحالف المستقبلي يقوض سلطة القيادة في الجيش الإسرائيلي، ويضر بثقة الجمهور وقد يؤدي إلى تفكيك الجيش.

طمأنة لا تنزع فتيل الأزمة

بالرغم من أنّ رئيس الوزراء المُكلف بنيامين نتنياهو حاول التزام الصمت سعياً لعدم خلق المزيد من التوتر على مفاوضاته لتشكيل الائتلاف الحكومي مع القوى اليمينية المتطرفة في كنيست الاحتلال، إلا أنّ توسّع التراشق الإعلامي بين الجنرالات وقادة الصهيونية الدينية، وتحوّل القضية إلى قضية رأي عام حقيقية أخذت مساحتها الكبيرة بين النخب وفي الاعلام الإسرائيلي، أجبرت نتنياهو على تقديم موقف يطمئن الجمهور والمستوى السياسي والعسكري.

حيث أكد نتنياهو في مقابلة صحفية، أنّه شخصياً وحزب الليكود من سيحددون سياسة الحكومة القادمة، مضيفاً أنّ “مصادر مختلفة أعربت له عن مخاوفها من أنّه قد يعطي وزارة الجيش لأحد الأحزاب الأصغر في الائتلاف وأخبرهم أنّ هذا لن يحدث، هذا خط أحمر”.

وأكد أنّ وزارة الجيش ستكون في يد “الليكود”، “السيطرة على وزارة الجيش ليست فقط لاعتراض الصواريخ، ولكن أيضاً لاتخاذ قرار بشأن السياسات التي قد تؤدي إلى إشعال المنطقة وأنا أريد تجنّب ذلك”.

إنّ التشخيص الواقعي للأزمة يخلص إلى أنّ المشكلة لن تكون في من يقود الوزارة، بل في كبح جماح وزرائه الذين منحهم صلاحيات واسعة، ولا يتوانون عن إعطاء توجيهات علنية لجنود الجيش بمعزل عن توجّهات قيادة “هيئة الأركان”

بالرغم من أنّ نتنياهو حاول أن يكون واضحاً في تصريحاته حول حفاظه على مؤسسة الجيش ووزارة الدفاع بعيداً عن سيطرة زعماء الصهيونية الدينية، إلا أنّ التشخيص الواقعي للأزمة يخلص إلى أنّ المشكلة لن تكون في من يقود الوزارة، بل في كبح جماح وزرائه الذين منحهم صلاحيات واسعة، ولا يتوانون عن إعطاء توجيهات علنية لجنود الجيش بمعزل عن توجّهات قيادة “هيئة الأركان”، وهو ما سينعكس بشكل كبير على زيادة عدد الاجتهادات من القيادة الوسطية في جيش الاحتلال لاختراق قواعد إطلاق النار، أو التصرف المباشر مع العديد من القضايا المتفجرة دون الرجوع لقادتهم.

ستحمل الأيام القادمة المزيد من التوتر بين قيادة جيش الاحتلال وهيئة الأركان، وما بين أعضاء الائتلاف الحكومي، وهو توتر لن يستطيع أحد حسمه باستثناء رئيس وزراء الاحتلال الذي يحتاج إلى إرضاء حلفائه وفي ذات الوقت الموازنة ما بين هذه الحاجة وما بين الحفاظ على تماسك الجيش وضمان قوة قيادته، غير أنّها ستكون مهمة صعبة في ظل عدم انسجامه مع رئيس الأركان الجديد الذي لم يكن يحبّذ وصوله لموقعه.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , , ,