ميثولوجيا “العقد الإسرائيلي الثامن” هل يعيد التاريخ ذاته؟!

التصنيفات : |
ديسمبر 26, 2022 7:39 ص

*أحمد حسن

لا يمكن لنا، ونحن نتحدث عن وقائع وخلفيات استعمارية محدّدة ساهمت في خلق الكيان “الإسرائيلي” في منطقتنا، تجاهل الدور الكبير الذي لعبته الميثولوجيا اليهودية في ذلك، سواء في صياغة الشعب أو في إقامة الدولة علماً أنّ الوجود الفعلي، تاريخيا، للأمرين السابقين لا زال مدار أسئلة بحثية أكاديمية- وآثارية- جادة.

واليوم، ومع اقتراب العقد الثامن على قيام الكيان، تعود الميثولوجيا التي لعبت دوراً في التأسيس لتلعب دوراً معاكساً في الزوال، فكما كانت أسطورة “أرض الميعاد”، المليئة بـ”السمن والعسل”، فاعلة في الأول، فإنّ أسطورة الزوال في “العقد الثامن” أطلت برأسها في الثاني على لسان أرفع مسؤولي الكيان، لكن لتغطّي، في الحالتين، على دوافع القيام والسقوط الحقيقية، فلعبت، في الحالة الأولى، دوراً غيبياً تنشيطياً عند الشعب، وفي الحالة الثانية، دوراً تبريريا، غيبياً أيضا، ليبدوَ تكرار “القيام” و”التيه” اليهودي أمراً مقدّراً ومكرّراً بحسب إرادة الرب “المتعالي” وليس وليد فشل طبيعي لمشروع عنصري وقاتل، أو لوقائع مادية وتاريخية محدّدة ربما كان على رأسها حقيقة أنّ الشعب الموعود لم يجد “أرضاً بلا شعب” -أو على الأكثر “عماليق وكنعانيين” يمكن إبادتهم ببساطة- ليعودَ إليها، بل وجد شعباً متجذّراً في أرضه عبر التاريخ وأكثر من ذلك يرفض تسليمها للآخرين.

تاريخياً يمتلك هؤلاء جميعاً فوبيا “العقد الثامن” الذي زالت فيه -بحسب الميثولوجيا اليهودية- مملكتان سابقتان (مملكة داوود ومملكة الحشمونائيم)، وبالتالي، فإنّ الكيان الثالث الحالي اقترب زواله، وفقاً للرواية اليهودية

بيد أنّ ما سبق لا يعني إغفال حقيقة تغلغل الجانب الديني في الوجدان الجمعي لساسة “إسرائيل” ومفكريها وحتى عامة الشعب، فتاريخياً يمتلك هؤلاء جميعاً فوبيا “العقد الثامن” الذي زالت فيه -بحسب الميثولوجيا اليهودية- مملكتان سابقتان (مملكة داوود ومملكة الحشمونائيم)، وبالتالي، فإنّ الكيان الثالث الحالي اقترب زواله، وفقاً للرواية اليهودية.

بيد أنّ المسكوت عنه في هذه الرؤية هو أسباب السقوط الفعلية كما أسلفنا، فالمملكتان السابقتان، وإن كانت كلمة مملكة فضفاضة عليهما، سقطتا لأسباب داخلية وخارجية -بعضها بأيدي قادة ممالك بلاد الشام والرافدين ووادي النيل، وبعضها، وهنا المفارقة، يتعلق بالنظام العالمي الجديد الذي تزعمته الإمبراطورية الفارسية حينها- يحاول الجميع طمسها لمصلحة رؤى تبريرية كما أسلفنا، وهي رؤى تزايدت في الآونة الأخيرة وخاصة في صفوف المستويات السياسية والعسكرية والإعلامية في الكيان، مع تعاظم التحدّيات الداخلية والخارجية، التي تواجهها حكومة الاحتلال “الإسرائيلي”.

هنا تحديدا، وفي مجال التبرير، نفهم قول رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في عام 2017: “سأجتهد كي تبلغ “إسرائيل” عيد ميلادها الـ100، لأنَّ مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمنا، وليست بديهية، فالتاريخ يعلّمنا بأنّه لم تُعمّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 عاما”، ونفهم أيضاً قبل ذلك ما كتبه رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي السابق، إيهود بارك، في مقال له في صحيفة “يديعوت أحرونوت”: “على مرِّ التاريخ اليهودي، لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 عاما”، أو ما كتبه الصحافي الإسرائيلي آري شافيط في صحيفة “هآرتس” تحت عنوان كبير: “إسرائيل تلفظ أنفاسها” قائلا: “اجتزنا نقطة اللاعودة”.

والحال، فإنّ العوامل الحقيقية للزوال لا تتعلق بميثولوجيا “العقد الثامن” أو سواه، بل بحقائق ووقائع مجردة على الأرض يمكن لنا تعداد بعضها كالانقسامات الداخلية، وعملية التدمير الذاتي “والمرض السرطاني الإسرائيلي”

وربما كان رئيس الوزراء المستقيل نفتالي بينيت، هو أكثر من اقترب من الواقع، والوقائع، حين قال: “مرة أخرى نواجه جميعاً لحظة مصيرية، فقد تفككت “إسرائيل” مرتين في السابق بسبب الصراعات الداخلية، الأولى عندما كان عمرها 77 عاما، والثانية 80 عاما، ونعيش الآن حقبتنا الثالثة، ومع اقترابها من العقد الثامن، تصل “إسرائيل” لواحدة من أصعب لحظات الانحطاط التي عرفَتها على الإطلاق”.

والحق، فإنّ الرجل هنا يلامس بوضوح الأسباب الداخلية للسقوط، في ما قام وزير الحرب، بيني غانتس، بملامسة الأسباب الخارجية حين حذّر من أنّ “قلقاً يكتنف مستقبل “إسرائيل” بسبب فقدانها السيادة في النقب والجليل، وإمكانية خسارتهما في النهاية، بسبب تعاظم الثقل الديمغرافي للفلسطينيين، ومظاهر تشبّثهم بالهوية الوطنية، وقد تتقلص جغرافياً لتصبح ممتدة فقط بين مدينتي الخضيرة جنوب حيفا، وغديرا جنوب تل أبيب”.

والحال، فإنّ العوامل الحقيقية للزوال لا تتعلق بميثولوجيا “العقد الثامن” أو سواه، بل بحقائق ووقائع مجردة على الأرض يمكن لنا تعداد بعضها كالانقسامات الداخلية، وعملية التدمير الذاتي “والمرض السرطاني الإسرائيلي” اللذين بلغوا، بحسب المحلل الإسرائيلي، جدعون ليفي “مراحلهم النهائية، ولا سبيل للعلاج بالقبب الحديدية ولا بالأسوار ولا بالقنابل النووية”.

إنّ فوبيا “العقد الثامن” المُثارة هذه الأيام تتكون من مزيج معقّد من إيمان ميثولوجي راسخ لدى البعض، وأهداف إبتزازية لدى البعض الآخر -استعطاف اليهود والعالم الغربي تحديداً تجاه الكيان الحالي وضرورة الاستمرار في دعمه-، وقراءة واقعية لدى البعض الثالث

وهناك أيضاً “الهجرة المعاكسة” التي سجلت مؤخراً أرقاماً لافتة نتيجة اليأس من المستقبل والخوف من عجز الحكومة عن حمايتهم من التهديدات المستجدة وعلى رأسها صواريخ المقاومة الفلسطينية، وهذا العجز يقودنا إلى السبب الثالث وهو تعاظم قوّة المقاومة الفلسطينية وانتشارها أفقياً بين جيل -وُلد بعد النكبة بعقود- واعتقد البعض أنّه “تغربن” و”تدجّن” بجزرة “أوسلو” وأصبح خاضعاً وقابلاً لحقيقة وجود الكيان المادية، لكنّه يُثبت يوماً بعد آخر وعيه الوطني والاستقلالي الكبير وتمسّكه بأرضه وتفوقه على من سبقه من أجيال بـ”اختراعه” المستمر لأدوات جديدة وفعالة في المواجهة مع العدو.

بهذا المعنى يمكن القول إنّ فوبيا “العقد الثامن” المُثارة هذه الأيام تتكون من مزيج معقّد من إيمان ميثولوجي راسخ لدى البعض، وأهداف إبتزازية لدى البعض الآخر -استعطاف اليهود والعالم الغربي تحديداً تجاه الكيان الحالي وضرورة الاستمرار في دعمه-، وقراءة واقعية لدى البعض الثالث.

بالمحصلة، “إسرائيل” ستزول والتاريخ سيعيد نفسه، هذا أمر محسوم، لكن من سيفعل ذلك ليس “الميثولوجيا” ورواتها، بل الفلسطينيون والواقع الذي يصنعونه بدمائهم وأرواح أبنائهم مع مطلع كل شمس جديدة، في انتظار شمس يوم الحرية القادم.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , , ,