كريم يونس: أنا عائد

التصنيفات : |
يناير 5, 2023 7:57 ص

*بسّام جميل

“معاً لبسنا بدلة الإعدام الحمراء، أنتَ في سجن الرملة الصهيوني وأنا في سجن وهران الفرنسي، ومعاً تدلى حبل المشنقة على رقابنا أشهر عديدة، ومعاً راقبنا الموت يزحف إلى أوصالنا ليل نهار، رؤوسنا كانت عالية، خاف الموت يا كريم، انقطع حبل المشنقة لأنّ القضية التي نناضل في سبيلها ثقيلة، لا تموت ولا تفنى ولا تسقط، استبدلوا حكم الإعدام بالمؤبد، كان السجّانون يرتجفون وأرجلنا ثابتة”.

تُكمل جميلة بوحيرد رسالتها إليه، لتُعينَه، أو ربما لتُساويَ بينهما، فالأصل أنّها مثله قد دفعت ثمن انتمائها لثورتها، ووقفت أمام حبل المشنقة، ليعيدَها الإيمان بالكفاح إلى ساحات النضال مع رفاقها.

“غداً سأغادر زنزانتي”، يقول كريم، كأنّها الرد الوافي لخطاب جميلة إليه، وهي اعتراف منه، بما أكدت حروفها، أنّ الأيمان ثورة بذاته، فكيف إذا كان لأجل ثورة!.

دخل الأسير كريم يونس (65 عاما) في السادس من كانون الثاني/ يناير الماضي عامه الـ40 في الأسر، ويقبع في سجن “هداريم”، حيث اعتُقل في الـ23 من العمر بزعم اختطاف وقتل جندي إسرائيلي والانتماء لحركة فتح والانخراط بالمقاومة المسلحة. هو ابن بلدة عارة في المثلث الفلسطيني المحتل عام 1948.

هو واحد من 25 أسيراً فلسطينيا ً تُواصل “إسرائيل” اعتقالهم منذ ما قبل توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، إذ رفضت على مدى عقود الإفراج عنهم، رغم مرور العديد من صفقات التبادل والإفراجات الجماعية التي كان آخرها في عام 2014، حيث كان من المقرر أن تفرج عن الدفعة الرابعة والأخيرة من الأسرى القدامى، إلا أنّها تنكرت للاتفاق الذي تمّ في حينه في إطار مسار المفاوضات مع السلطة الفلسطينية.

واعتقل الاحتلال الإسرائيلي كريم يونس في السادس من كانون الثاني/يناير  1983، وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة، وجرى تحديد المؤبد له لاحقاً بـ40 عاما. وفي عام 2013، في ذكرى اعتقاله الـ30، توفّي والده، واستمرت والدته في زيارته، رغم مرضها وكِبر سنّها، إلى أن توفيت في أيار/ مايو الماضي، أي قبل 8 أشهر من الإفراج عنه.

رسالة من جميلة بوحيرد إلى كريم يونس، وأخرى منه إلى شعبه، مع اقتراب موعد خلاصه من عتمة السجّان. وفي الرسالتين بلاغة المعنى لسيرورة المقاومة على امتداد وطننا العربي، لكأنّهما تبادلا الرسائل لتكون هذه السطور بين أيديكم اليوم، فيسردان من خلالها بعضاً من سيرة النضال ومآلاته

رسالة من جميلة بوحيرد إلى كريم يونس، وأخرى منه إلى شعبه، مع اقتراب موعد خلاصه من عتمة السجّان. وفي الرسالتين بلاغة المعنى لسيرورة المقاومة على امتداد وطننا العربي، لكأنّهما تبادلا الرسائل لتكون هذه السطور بين أيديكم اليوم، فيسردان من خلالها بعضاً من سيرة النضال ومآلاته.

كريم: “سأترك زنزانتي، وأنا مدرك أنّ سفينتنا تتلاطمها الأمواج الدولية من كل حدب وصوب، والعواصف الإقليمية تعصف بها من الشرق والغرب، والزلازل المحلية، وبراكين عدوانية تكاد تبتلعها، وهي تبتعد وتبتعد عن شاطئ حاول قبطانها أن يرسوَ إليه قبل أكثر من ربع قرن”.

جميلة: “أخي كريم، عندما نرى الحياة من وراء القضبان نراها أكثر وضوحا، غير مزيفة وغير مسيّجة، ولا يوجد أدق من وصف الأسير وجمال رسوماته للفضاء، ولا أصدق من أغنية تُغنّى في السجن وترقص على ألحانها الطيور العائدة وتضحك السماء، ولا أصدق من نبوءة المعذبين الذين تحوّل صلبهم إلى بشارة للعالمين ولاهوتاً للأحرار، السجن يشعل ضوء الذاكرة.”

“الانفجار قادم من السجون، الأعمار المحشورة والمقيّدة في المؤبدات والظلمات تنتقل إلى هذه الأجيال الفتية، تعيد الدورة الدموية للأرض والإنسان ولا تتوقف ساعةً الروح العنيدة في القدس عاصمة فلسطين وتاج العروبة”

(جميلة بوحيرد)

كريم: “لطالما تمنيت أن أغادرها منتزعاً حريتي برفقة إخوة الدرب ورفاق النضال، متخيّلاً استقبالاً يُعبّر عن نصرٍ وإنجازٍ كبير.. أحاول أن أتجنب آلام الفراق ومعاناة لحظات الوداع لإخوة ظننت أنّني سأكمل العمر بصحبتهم، وهم حتماً ثوابت في حياتي كالجبال، وكلما اقتربتْ ساعة خروجي أشعر بالخيبة والعجز، خصوصاً حين أنظر في عيون أحدهم وبعضهم قد تجاوز الثلاثة عقود في الأسر”.

جميلة: “أخي كريم عندما أفتح دفاتري وذكرياتي أجد دفاترك وذكرياتك، أجد دمك وصوتك وحبر قلمك وملح جسدك هنا، البطش والقمع والعزل والإهمال الطبي، التعذيب والتنكيل والمحاكمات غير العادلة، قوانين فاشية عنصرية، اعتقالات تعسفية جماعية، دماء على حيطان السجون، شهداء في مقابر سرية، سنوات طويلة في الجحيم واللهيب، سجّان واحد، جلّاد واحد، منظومة قمع واحدة، دمك أمامي، وجهك أمامي، الأسرى في سجون الاستعمار الفرنسي هم أنفسهم الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني، لكنّ الراية هي نفس الراية، راية المقاومة والخلاص والحرية”.

كريم: “أغادر، لكنّ روحي باقية مع القابضين على الجمر، المحافظين على جذوة النضال الفلسطيني برُمّته، مع الذين لم ولن ينكسروا، لكنّ سنوات أعمارهم تنزلق من تحتهم، ومن فوقهم، ومن أمامهم، ومن خلفهم، وهم لا يزالون يطمحون أن يروا شمس الحرية”.

جميلة: “أخي كريم، لقد دخلت السجن وأنا أهتف “جزائرنا”، وأنت دخلت السجن تهتف “فلسطيننا”، تتردد أصواتنا في الشوارع والمظاهرات والانتفاضات، ولهذا اختار خليل الوزير (أبو جهاد) عنوان أول صحيفة فلسطينية لحركة فتح في الجزائر: “فلسطيننا نداء الحياة”، وما زال نداء الحياة ينبض في عروق الشعب الفلسطيني، الحياة التي صنعتَها داخل الجدران تنفجر ألغاماً تحت أقدام الطغاة والمحتلّين، الانفجار قادم من السجون، الأعمار المحشورة والمقيّدة في المؤبدات والظلمات تنتقل إلى هذه الأجيال الفتية، تعيد الدورة الدموية للأرض والإنسان ولا تتوقف ساعةً الروح العنيدة في القدس عاصمة فلسطين وتاج العروبة”.

كريم: “بعد أيام قليلة، والرهبة تجتاحني باقتراب عالم لا يُشبه عالمي” ولكنّه بدا أكثر استعداداً للحظة “لا بدّ لي فيها أن أمرَّ على قديم جروحي، وقديم ذكرياتي”.

“أنا عائد لأنشدَ مع أبناء شعبي في كل مكان نشيد بلادي، نشيد الفدائي.. نشيد العودة والتحرير”

(كريم يونس)

جميلة: “أخي كريم، أكتب إليك لأنّي أكتب عن نفسي، حكايتنا المشتركة التي تتفتّق عن ولادة جديدة لأجل المستقبل، مستقبل الحرية والاستقلال، مستقبل من حمل أربعين عاماً على كتفيه ولم يشِخ أو يستسلم أو يصدأ، مستقبل من يبني الأمل وسط الحديد والنار والعذاب، مستقبل الأساطير الإنسانية التي أرادت أن تنتصر أكثر مما تعيش، فإنسانيتنا سابقة على الموت واليأس كما قال الفيلسوف سارتر، وعندما أهتف بالنشيد الوطني الجزائري أجد نفسي أهتف بالنشيد الوطني الفلسطيني، وعندما أشعر بآلام التعذيب في ليالي الشبح والضرب أشعر بآلام آلاف الأسرى النساء والأطفال والمرضى في السجون وأقبية التحقيق، وعندما أقسم بالنازلات الماحقات والدماء الزاكيات الطاهرات والبنود اللامعات الخافقات؛ يختلط صوتي بصوتك وأنت تنشد: نعم لن نموت ولكنّنا سنقتلع الموت من أرضنا”.

كريم: “أنا عائد لأنشدَ مع أبناء شعبي في كل مكان نشيد بلادي، نشيد الفدائي.. نشيد العودة والتحرير”.

وتستعد عائلة كريم يونس لاستقبال ابنها الأسير، والذي سيتحرّر اليوم بعد أربعة عقود قضاها في غياهب الأسر.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , , , ,