لا هوامش للسلطة خارج المُحدّدات “الإسرائيلية” ورسالة العقوبات: “إنّها مجرد البداية”!

التصنيفات : |
يناير 9, 2023 7:56 ص

*أحمد الطناني – غزة:

على أثر النجاح الفلسطيني بانتزاع قرار في الأمم المتحدة لطلب فتوى من محكمة العدل الدولية بشأن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، اتخذ “الكابينت” السياسي والأمني لدولة الاحتلال، في أول اجتماع له بعد تشكيل الحكومة الجديدة، سلسلة عقوبات على السلطة الفلسطينية.

وبحسب ما تمّ إعلانه في وسائل الإعلام العبرية فقد تنوعت العقوبات بين العقوبات المالية وسحب الإمتيازات والتي كان أبرزها قرصنة وسرقة 139 مليون شيكل من أموال الضرائب، بإدعاء تحويلها إلى المستوطنين المتضررين من العمليات الفدائية الفلسطينية، إضافة لحسم جزء من الأموال الفلسطينية مقابل المخصصات التي تدفعها السلطة الفلسطينية للشهداء والأسرى وعوائلهم.

إضافة لما سبق، تنص العقوبات أيضاً على قرار تجميد مخططات البناء الفلسطينية في مناطق “ج” (وفقاً لاتفاق أوسلو) في الضفة الغربية. وإلغاء امتيازات وسحب بطاقات الشخصيات المهمة “VIP” تستهدف الناشطين بشكل مباشر في المعركة القانونية – السياسية الفلسطينية ضد الاحتلال.

لم تتوقف العقوبات على هيئات ومؤسسات السلطة الرسمية، فقد توسعت وصولاً لاستكمال الهجمة ضد المؤسسات الأهلية الفلسطينية، حيث تنص العقوبات على اتخاذ خطوات ضد منظمات المجتمع المدني الفلسطينية الناشطة في الضفة الغربية المحتلة، التي يدّعي الاحتلال أنّها تنشط أو تدعم أنشطة معادية للاحتلال، بما فيها النشاطات السياسية والقانونية التي توثّق الجرائم والانتهاكات بحقّ الشعب الفلسطيني.

استثنت عقوبات الاحتلال كلاً من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حسين الشيخ، وقادة الأجهزة الأمنية. وهو استثناء بحسب الإعلام العبري هدفه الحفاظ على التعاون الأمني بين جيش الاحتلال وهذه الأجهزة، وعدم السماح بانهيار السلطة الفلسطينية.

هل تريد “إسرائيل” القضاء على السلطة؟

بالرغم من أنّ برامج بعض المكونات اليمينية الفاشية ينص صراحة على ضرورة القضاء على أي تمثيل سياسي أو إداري للفلسطينيين كوحدة واحدة، إلا أنّ الحكومة الصهيونية الحالية، لم تتبنّ التوجه إلى تصفية وجود السلطة والقضاء عليها.

لا يمثّل اللجوء لخطوات عقابية من “إسرائيل” على السلطة الفلسطينية -وبشكل خاص سحب الامتيازات وقرصنة الأموال- سلوكاً جديدا، بل هو نهج اتّبعته الحكومات المتعاقبة منذ توجُّه السلطة الفلسطينية إلى المؤسسات الدولية لملاحقة الاحتلال، وتصَاعد بشكل كبير في فترة حكم الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي اتخذ خطوات عقابية موازية للضغط على السلطة لقبول صفقة القرن.

المطلوب “تقويم” سلوك السلطة وفق المعايير الصهيونية، وأن تبقى هذه السلطة ملتزمة بدورها الأمني الذي نظّمته التزامات اتفاق أوسلو الأمنية، والحفاظ على التنسيق الأمني، مقابل بعض التسهيلات الحياتية والاقتصادية وهوامش صغيرة جداً من الإدارة الذاتية في تفاصيل إدارة شؤون السكان

لا يريد “بشكل فعلي” أي مكون من مكونات المستوى السياسي في دولة الاحتلال “حاليا” الذهاب لخطوات بهدف القضاء على السلطة وإنهاء وجودها، بل المطلوب “تقويم” سلوك السلطة وفق المعايير الصهيونية، وأن تبقى هذه السلطة ملتزمة بدورها الأمني الذي نظّمته التزامات اتفاق أوسلو الأمنية، والحفاظ على التنسيق الأمني، مقابل بعض التسهيلات الحياتية والاقتصادية وهوامش صغيرة جداً من الإدارة الذاتية في تفاصيل إدارة شؤون السكان.

ولهذا وتزامناً مع فرضها للعقوبات، أبلغت سلطات الاحتلال مسبقاً قيادة السلطة الفلسطينية بالخطوات، وحافظت على استثناء أكثر الشخصيات تأثيراً بما فيهم قادة الأجهزة الأمنية والأركان الرئيسية للسلطة من العقوبات، في رسالة تهدف لتأكيد تمسُّكها بالدور “الثمين” للسلطة والمتمثّل بالالتزامات الأمنية، دون قبول أي تحرك خارج الهامش المحدد لحركة السلطة وهيئاتها.

أثر التحالف الحكومي الفاشي على تصعيد العقوبات

في واقع الأمر وبالرغم من أنّ سياسة العقوبات ليست جديدة، إلا أنّ طبيعة صياغة العقوبات وبعض الإضافات عليها تحمل بصمات أحزاب التحالف، وبشكل خاص وزير المالية اليميني المتطرف “بتسلئيل سموتريتش” الذي أعلن أنّ العقوبات التي أقرها “الكابينت” لن تكون سوى البداية!.

“سموتريتش” الذي لا يخفي توجهه بشرعنة البؤر الاستيطانية وفرض السيادة على المستوطنات وسعيه لتفكيك السلطة باعتبارها كياناً يعمل على منح الفلسطينيين في الضفة هوية سياسية، أعلن بشكل واضح أنّ أحد أهم أهدافه في الائتلاف الحكومي الحالي هو وقف البناء الفلسطيني في مناطق “ج” بمقابل تقديم كل التسهيلات اللازمة للتوسع الاستيطاني وشرعنة البؤر الاستيطانية وإعلان الضم في أراضي الضفة الغربية. وقد انعكس هذا الموقف على إضافة بند خاص بالبناء على مناطق “ج” ضمن حزمة العقوبات التي استهدفت الفلسطينيين.

في ما واصل رئيس حكومة الاحتلال “بنيامين نتنياهو” تبنّي سياسة اشتقّها حديثاً وزير الحرب السابق “بيني غانتس” بملاحقة مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني الناشطة في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، واعتبارها مؤسسات معادية، ضمن نهجٍ لفصل هذه المؤسسات عن أي دور وطني في مواجهة الاحتلال.

أهمية الخطوات الفلسطينية

التحرك الفلسطيني في المؤسسات الدولية الساعي لملاحقة الاحتلال والعمل على عزله ومواجهته في المحافل الدولية، بدأ يأخذ منحىً أكثر جدية وتأثيراً في السنوات الأخيرة، خصوصاً مع تكلله بالقرار الأخير للأمم المتحدة بطلب فتوى من محكمة العدل الدولية.

الفتوى الجديدة المتوقع صدورها من محكمة العدل الدولية ستؤكّد على أنّ السياسات “الإسرائيلية” في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير مشروعة، تنتهك القانون الدولي وتعتدي على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقّ تقرير المصير

القرار تضمّن فقرة (الفقرة 18) تطلب من محكمة العدل الدولية إصدار فتوى قانونية، وفقاً لنص المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة، عن قضايا صيغت في سؤالين محدّدين على المحكمة أن تجيب عنهما تفصيلا:

ما هي الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك “إسرائيل” المستمر لحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 واستيطانها وضمّها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعاتٍ وتدابير تمييزية في هذا الشأن؟، كيف تؤثر سياسات الكيان الصهيوني وممارساته الناجمة عن هذه الانتهاكات على الوضع القانوني للاحتلال، وما هي الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول وكذلك بالنسبة للأمم المتحدة؟.

الفتوى الجديدة المتوقع صدورها من محكمة العدل الدولية ستؤكّد على أنّ السياسات “الإسرائيلية” في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير مشروعة، تنتهك القانون الدولي وتعتدي على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقّ تقرير المصير. صحيح أنّ هذه الفتوى مجرد “رأي استشاري” وليست مُلزِمة، إلا أنّها تفتح آفاقاً جديدة لملاحقة “إسرائيل” في العديد من المحافل الدولية بما فيها محكمة الجنايات الدولية، وتفتح المجال لتقديم مشاريع قرارات في الجمعية العامة للأمم المتحدة تطالب مجلس الأمن بفرض عقوبات على “إسرائيل”.

من جانب آخر، فإنّ فتوى محكمة العدل الدولية ستعطي مجالاً أوسع للحملات والنشاطات الداعية لتصعيد المقاطعة لـ”إسرائيل” للتحرك والعمل على عزلها إقتصادياً وثقافياً وسياسيا، وسيشكّل داعماً في وجه حملات الملاحقة والمحاصرة لحملة المقاطعة الدولية “BDS” التي تستهدفها “إسرائيل” بدعوى “معاداة السامية”.

المطلوب فلسطينياً للمواجهة

في مقابل الهجمة “الإسرائيلية” المتصاعدة، والحكومة اليمينية الفاشية، المطلوب من الفلسطينيين إجمالاً التوافق على برنامج وطني شامل للمواجهة، والتصدي للإجراءات الصهيونية والمحاولات التصفوية المتصاعدة.

في ذات الإطار، فإنّ القيادة الفلسطينية الرسمية مطالَبة باستخلاص العبر من سلوك الاحتلال ومغادرة مربع الرهانات الخاسرة على مشروع داسته ومزقته الدبابات الصهيونية وأكله التوسع الاستيطاني على الأرض بما يُعدم أي فرصة حقيقية وفعلية لحل “الدولتين” وأوهام اتفاق “أوسلو” والتزاماته السياسية والأمنية والاقتصادية.

إنّ استكمال التحرك الدولي واستثمار قرارات المؤسسات الدولية وفي المقدمة منها الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، يتطلب برنامجاً فاعلاً وحقيقياً يبدأ من ملاحقة قادة الاحتلال في محكمة الجنايات الدولية، وإعادة النظر في مدى جدوى وجدية وفعالية البعثات الدبلوماسية الفلسطينية في العالم

إنّ استكمال التحرك الدولي واستثمار قرارات المؤسسات الدولية وفي المقدمة منها الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، يتطلب برنامجاً فاعلاً وحقيقياً يبدأ من ملاحقة قادة الاحتلال في محكمة الجنايات الدولية، وإعادة النظر في مدى جدوى وجدية وفعالية البعثات الدبلوماسية الفلسطينية في العالم، وإصلاح السلك الدبلوماسي وتحصينه ليكون قادراً على مواكبة حجم التحديات والتضحيات التي يقدّمها الشعب الفلسطيني.

وفي سياق متّصل، فإنّ الأزمة الروسية – الأوكرانية والموقف الدولي المنحاز الذي عمل على شرعنة ما سُمّي بالمقاومة “الأوكرانية” يفتح الأفق واسعاً لوجود إمكانية حقيقة ومهمة لتبنّي استراتيجية دبلوماسية تعمل على شرعنة المقاومة الفلسطينية بكل أشكالها بما فيها المسلحة، والعمل الجاد في المحافل الدولية لإيقاف وصمها بالـ”الإرهاب” باعتبارها مقاومة مشروعة ووفق القانون الدولي، للتصدي لاحتلال استعماري توسعي يقضم الأرض ويرتكب الجرائم بشكل يومي ويمارس جرائم تطهير عرقي بحقّ المواطنين أصحاب الأرض، وذلك بشهادة كل مؤسسات العدل والمحاكم الدولية.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,