لا تُسقطوا قرن الفلفل الأحمر من يدي

التصنيفات : |
يناير 11, 2023 7:48 ص

*حمزة البشتاوي

ينجذب الإنسان بشكل طبيعي إلى الأكلات والطعام اللذيذ الذي تربى عليه منذ الصغر، ويرافقه المذاق والطعم والرائحة أينما حلّ وارتحل، وفي قطاع غزة الذي تبلغ مساحته 365 كلم ويعيش فيه ما يقارب الـ2,5 مليون نسمة يُعتبر الفلفل الأحمر الحار عنصراً أساسياً وطبقاً رئيسياً على موائد الطعام، فهو زينة المائدة ورفيق كل الأكلات والوجبات الخفيفة والدسمة.

وقد عرف الغزاويون نبتة الفلفل منذ دخولها إلى فلسطين قبل أكثر من 1500 عام وتغزلوا كثيراً بطعمه ولسعته حتى أنّ بعضهم يحفظ لعنترة العبسي بيت الشعر الذي قال فيه:

وأَنا ابْنُ سوْداءِ الجبين كأَنَّها             ضَبُعٌ تَرعْرَع في رُسومِ المنْزل

السّاقُ منها مثلُ ساقِ نعامة ٍ          والشَّعرُ منها مثْلُ حَبِّ الفُلْفُل

وحتى يومنا هذا ما زال الفلفل الأحمر بلسعته اللذيذة يحضر في كل الأوقات والمواسم وخاصة في موسم الصيف الذي يتميز بغزارة الإنتاج ويكون فيه الفلفل حار جدا، وعندما يقوم أهل غزة بتخزينه بطرق وأشكال مختلفة كالمطحون والطرشي، ورغم وفرته في موسم الصيف فإنّ أهل غزة لا يتوقفون أبداً عن زراعته في كل المواسم داخل البيوت البلاستيكية وعلى أسطح المنازل والشرفات وعلى الدشم والمتاريس وفي الأنفاق، فهم لا يستسيغون مذاق الطعام بدونه ولا يغيب عن أصناف موائدهم.

وتحتاج كل أسرة مكونة من خمسة أفراد في قطاع غزة إلى أكثر من إثنان كيلوغرام شهرياً من الفلفل الحار، ومع وجود أنواع متعددة من الفلفل التي يتمّ زراعتها في قطاع غزة وخاصة في المنطقة الجنوبية كالبلدي والسلطان والرومي، يبقى الأحمر الحرّاق لاذع المذاق هو المفضل لدى أهل غزة، حيث يأكلونه مخروطاً أو مكبوساً أو على حالته الطبيعية، ويصنعون منه ببراعة فائقة زبدية الدقة بإضافة البندورة وعين جرادة والبصل والملح وعصير الليمون، وهذا كفيل بأن يجعل عصافير المعدة تعلن حالة الإستنفار الشامل، كما يحصل عند تناول “السمّاقية” التي لا يمكن أن تُسمى سمّاقية غزاوية إذا لم تكن بحاجة إلى المطافئ بجانبك وأنت تأكلها.

وفي الحديث عن الإحساس العالي بلذة ألم الفلفل الحار يقول الشاعر معين بسيسو إبن مدينة غزة: “نحنا انخلقنا ولقينا حالنا بنحب الفلفل والأكل الحرّاق وهو بالنسبة لنا طعم وإحساس”

وعن تعلُّق أهل غزة بأكل الفلفل الحار جرى تداول نكتة بعدما تمّ التوقيع على إتفاق غزة – أريحا عام 1994، وقيل فيها بأنّ شعار السلطة الفلسطينية سيتكون من قرنين فلفل وموزة في إشارة إلى موز أريحا وفلفل غزة، وهذه النكتة تشبه النكتة التي قيلت عن أهالي صفّورية بأنّ شعارهم يتكون من أعواد وأوراق الملوخية.

وفي الحديث عن الإحساس العالي بلذة ألم الفلفل الحار يقول الشاعر معين بسيسو إبن مدينة غزة: “نحنا إنخلقنا ولقينا حالنا بنحب الفلفل والأكل الحرّاق وهو بالنسبة لنا طعم وإحساس”.

ويُحكى بأنّ الشاعر معين بسيسو كان قد ذهب بصحبة الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي إلى أحد مطاعم وسط القاهرة كي يتناولا سندويشات الفلافل، وفي الطريق قال معين بسيسو لعبد الوهاب البياتي: “ستأكل اليوم الفلافل كما لم تأكلها من قبل”، وعندما جلسا على الطاولة لتناول السندويشات أخرج معين بسيسو من معطفه قرون الفلفل الأحمر الحار وقدّم بعضها لعبد الوهاب البياتي داعياً إياه ليس إلى تذوقها فقط بل إلى تحمُّل لذة لسعتها والدخول في لحظات خرافية من فرادة الطعم وأن يكتب فيها قصيدة حب شهية مثلها. وحينها قال له البياتي: “لهذه الدرجة تعشقون الفلفل الحار”. فأجابه بسيسو: “وأكثر حتى أنّ إحدى النكات عندنا في غزة تقول: (إن أردت أن تصطاد غزاوياً فانصب له فخاً من الفلفل فهو فخ محبب جداً لدى أهل غزة)”.

ويُعتبر ذلك جزءاً من الصراع الذي يخوضه الفلسطينيون بمواجهة الاحتلال الذي يحاول سرقة كل شيء حتى المأكولات المرتبطة بالنسبة للفلسطينيين بحُب الأرض والقلوب والنَّفَس الطيب أكثر من ارتباطها بالمعدة

ومن هنا يمكن الاعتقاد بأنّ إبن غزة الذي يقاوم الاحتلال والحصار يتعلق كثيراً بالفلفل الحار ولا يمكنه أن يفرّط به باعتباره أصبح جزءاً من الحكاية والتراث وخيرات الأرض، ومن المستحيل أن يتناول أي وجبة طعام بدونه، ولذلك يحمله معه في كل مكان وزمان مردداً من نكهة اللسعة ومن منصة اللغة والطعم والرائحة: لا تسقطوا قرن الفلفل الأحمر من يدي.

ويُعتبر ذلك جزءاً من الصراع الذي يخوضه الفلسطينيون بمواجهة الاحتلال الذي يحاول سرقة كل شيء حتى المأكولات المرتبطة بالنسبة للفلسطينيين بحُب الأرض والقلوب والنَّفَس الطيب أكثر من ارتباطها بالمعدة.

ولكنّ الاحتلال كان وما يزال يحاول أن يسرق المأكولات الفلسطينية وأن ينسبها إليه بحثاً عن تاريخ وتراث مفقود، ولكنّ ذلك يفشل أمام صلابة وصمود الفلسطينيين الذين يرفضون التفريط حتى ولو بقرن فلفل حار.

*كاتب وإعلامي


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , ,