المشهد الفلسطيني: مفارقات في عام جديد

التصنيفات : |
يناير 25, 2023 8:07 ص

*أحمد حسن

مع انسداد أفق التسويات، أو تعقّدها، في العالم والمنطقة، وخاصة في فلسطين المحتلة بعد تسلّم حكومة المتطرفين زمام الأمور في “الكيان” ببرنامجها الذي لا يشبه سوى ورقة “نعوة” رسمية لآخر وهم من أوهام فرص التوصل إلى أي حلّ عادل أم ظالم، بدت في سماء المنطقة والعالم مفارقات غريبة ربما كانت “سلطة أوسلو” أفضل من عبّر عما يعنينا منها.

ففي مواجهة بدء عمليات استيطانية جديدة جنوب شرق نابلس لم تجد هذه “السلطة” ما تملكه سوى اعتبار وزارة خارجيتها أنّ ذلك يشكّل “تحدّياً سافراً للمطالبات الدولية والأمريكية لوقف الإجراءات أحادية الجانب”، والمفارقة هنا أنّها حتى في “ندائها الدولي” فرقت ما بين المطالبات “الدولية” والمطالبات “الأمريكية” لتجعل بالتالي من واشنطن مقابلاً أو حداً للمجتمع الدولي بكامله، وإن كان ذلك صحيحاً على المستوى العام إلا أنّه يعيد تذكيرنا، كعرب، بالـ(99%) من الأوراق الساداتية الشهيرة التي انتهت برهن البلد كله للأمريكان، وللإسرائيليين، وبالتالي لا يصح هذا الطرح “الأوسلوي” من بلد تتفاقم مأساته بكاملها في هذه المرحلة -وللدقة منذ عقود طويلة- على الموقف الأمريكي الداعم بالمطلق للكيان وسلطاته ومستوطنيه، وآخر مآثره تثبيت القدس كعاصمة أبدية لـ”إسرائيل” كإرث أوحد استبقاه الديمقراطيون من تركة ترامب التي قالوا أنهّم جاءوا لتصفيتها.

المفارقة أنّ التصعيد الإسرائيلي الأخير استمر وتصاعد في ما تهديد عباس اضمحل ويكاد يندثر، لأنّه لم يجد، على ما يبدو، حتى هذه اللحظة أسباباً معقولة لتنفيذه

بيد أنّه لهذه المفارقة وجه آخر وهو أنّ السلطة تظن أنّها بذلك ترمي الكرة في الملعب الأمريكي، وكفى الله “جماعة أوسلو” مغبة القتال، متجاهلة أنّها تُسقط بذلك من يدها الكثير من الأوراق السياسية والأمنية التي تمتلكها والتي هددّت بها، ومنذ زمن، على لسان رئيسها حين قال: “سنوقف التنسيق الأمني بكل أشكاله، ونُعلّق الاتفاقيات السابقة مع “إسرائيل” ونسحب الاعتراف”، في ما لو استمر التصعيد الإسرائيلي، والمفارقة أنّ هذا الأخير استمر وتصاعد في ما تهديد عباس اضمحل ويكاد يندثر، لأنّه لم يجد، على ما يبدو، حتى هذه اللحظة أسباباً معقولة لتنفيذه.

والحال، فإنّ القضية تتفتّق هنا عن مفارقة أخرى، فسلطة أوسلو ارتبطت -قيامة واستمراراً وبقاء- بشرطيْ التنسيق الأمني والمعونات المالية التي وجدت نفسها تسري في اتجاه واحد نحو “البطانة” التي ارتبطت، بالتالي، مصالحاً مالية وأمنية واستخباراتية ومستقبلاً سياسياً بهذا الكيان والتنسيق معه، وأيضاً بالفريق العربي المعروف التوجه، والأخطر من ذلك، كما يقول الكاتب الفلسطيني راسم عبيدات: “بالقروض بأشكالها المختلفة، من خلال المؤسسات المالية الدولية، من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي”، لذلك لم يكن تهديد عباس، أمام كل هذه الارتباطات، سوى بطولة جوفاء في وقت ضائع.

وبالطبع، فإنّ المفارقات لم تتوقف على السلطة فحين صرخ طلبة جامعة “ميشيغان” في وجه نائبة الرئيس الأمريكي “فلسطين حرة من النهر إلى البحر.. انتفاضة انتفاضة”، سارعت وسائل إعلام غربية لتقول “إنّها دعوة لقتل اليهود”، ولم يجد هؤلاء الطلبة أي من اللوبيات العربية الفاعلة في واشنطن لتأخذ بيدهم، أو تسأل عنهم، كما لم يجدوا أي وسيلة إعلام عربية، سوى من رحم ربي، لتهتمَ بهذا الأمر، فهي مشغولة بتبنّي الحديث الإسرائيلي عن “مجمّع المسجد الأقصى”، لأنّها تعرف جيداً أنّ الحرب على المصطلحات أيضاً وأنّ مكانها هو في الجانب الصهيوني حكما.

كان يُفترض بالسلطة أن تقرأ جيداً في كتاب العالم المتغير، وأن تقرأ في حقيقة أنّ “إسرائيل” ذاتها تمر بمنعطفات داخلية حادة جاءت هذه الحكومة كنتيجة لها لتعيدَ التأكيد على أنّ “التطرّف الإسرائيلي لا حدود له، ولا ينفكّ يتعمّق، كلما ازدادت التنازلات من الطرف الآخر”

أما “من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر” فقد كان أمر المفارقات أدهى وأمرّ، فقد شهد العام الماضي، على سبيل المثال لا الحصر، إعلان رئيس الاتحاد المغربي للمصارعة، فؤاد مسكوت، في رسالة بعثها إلى الاتحاد “الإسرائيلي” للمصارعة، مشاركة مصارعين مغاربة في مباريات في كيان العدو، في 25 و26 آب/أغسطس، “بمناسبة إحياء ذكرى 11 رياضياً قُتلوا في عملية ميونيخ، في أيلول عام 1972”!، وبحجة أنّ “الرياضة كانت دائماً أداة للسلام العالمي والصداقة بين الشعوب”، دون أن ينسى التعبير في رسالته هذه عن سروره بـ”أن نأتي إلى “إسرائيل””.

وإذا كان سرور الرجل بالقدوم إلى “إسرائيل” لا يعنينا كثيراً رغم خطورته، لأنّ مستوى التطبيع العربي مع الكيان ارتفع إلى حد أنّ المعلن عنه تجاوز تطبيع مسكوت بأشواط، لكن يحقّ لنا أن نسأل، ولو متأخرين، عن أي شعوب وأي سلام يتحدث عنهما هذا الرجل.

والأمر، فإنّه كان يُفترض بالسلطة في مواجهة عملية الاستيطان الجديدة، وما سبقها وما سيليها، أن تقرأ جيداً في كتاب العالم المتغير، وأن تقرأ في حقيقة أنّ “إسرائيل” ذاتها تمر بمنعطفات داخلية حادة جاءت هذه الحكومة كنتيجة لها لتعيدَ التأكيد على أنّ “التطرّف الإسرائيلي لا حدود له، ولا ينفكّ يتعمّق، كلما ازدادت التنازلات من الطرف الآخر”، وبالتالي يجب على السلطة البناء على ذلك في البحث عن خيارات أخرى، وعلى الأقل اختبار ما قاله نائب رئيس حركة فتح، محمود العالول: “إنّ العالم لم يُبقِ لنا سوى خيار واحد وهو مواجهة هذا التحدّي ومقاومته”.

وهذا ما يجب فهمه فقط لا غير.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , , , , , ,