متى يكسر الزلزال الفلسطيني الصمت الأممي والعربي أسوةً بزلزال سوريا وتركيا؟

التصنيفات : |
فبراير 20, 2023 10:00 ص

* رامي سلّوم

غيّرت نحو 40 ثانية، وهو زمن الهزة الأرضية التي ضربت مناطق في سوريا وتركيا نمط حياة السكان، وطريقة تفكيرهم، ومدى شعورهم بالأمن والاستقرار في منازلهم، لتحوّل الصدمة واقع الحياة من الاستقرار إلى الاضطراب، مسبّبة آثاراً نفسية بالغة من مشاعر الخوف والحرمان من النوم، ونوبات البكاء الهستيرية والاكتئاب وغيرها.

التعاطف الدولي الذي حاول أن يظهر “إنسانيا” من خلال رسائل الدعم والتعزية وإرسال المساعدات، يفتح باب التساؤل حول غياب إنسانيته مع مشهد مشابه من حصار الموت اليومي الذي يحيط بالفلسطينيين منذ عقود، جراء الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة وهم الذين خبروا إخراج ضحاياهم من تحت الأنقاض واقتحام منازلهم الآمنة واعتقال النساء والفتية والعجزة وغيرها من عمليات القتل الإجرامية اليومية التي يمارسها الاحتلال بحقّ شعب من المفترض أن يكون آمنا في بلده!.

بداية، نحن لا نسعى من هذه المقاربة إلى استغلال المشهد المؤلم لآثار الزلزال المدمر ولا ننتقص من مأساة الضحايا والمهجرين، غير أنّنا نحاول تقديم مقاربة واقعية عن التداعيات النفسية والاجتماعية وما يلحق بالنفس البشرية من أضرار جراء الاحساس بانعدام الأمان، كما نكشف نفاق المجتمع الدولي الذي حاول تسييس مساعدة ضحايا الزلزال، ليتراجع قليلاً تحت ضغط شارعه الجارف، بينما لا تزال المأساة الفلسطينية في طي النسيان والتجاهل.

وفي الوقت الذي ربما يكون للطبيعة والإرادة الإلهية تعزيتها في الحالة الأولى، خصوصاً أنّها تخرج من قدرة الإنسان، والمجتمع الدولي على إيقافها، فإنّ الاستمرار في التفرُّج “المتبلّد” على مأساة تخلقها عصابات همجية إسرائيلية لشعب كامل من دون رادع، يبقى وصمة عار أمام ذلك المجتمع الذي يُلوّح بالإنسانية وفقاً لأهدافه السياسية ومدى مصلحته في استغلال مآسي الشعوب وواقعها الذي خلقه بنفسه.

الاستعداد للموت

بات الاستعداد للموت عادة معيشية طبيعية لدى الفلسطينيين جراء خبرتهم الطويلة ومعايشتهم له منذ إعلان الكيان الصهيوني، وقبله على يد عصابات الهاغاناه، فالأُسر والنساء خاصة في المناطق الفلسطينية وفي الأحياء التي يتمّ اقتحامها يومياً منذ أشهر لا يتمتعون بحياة ومعيشة طبيعية ولا يملكون رفاهية الراحة في منازلهم، فيتركون جميع حاجياتهم على مقربة، في حال تعرضت أحياؤهم لأي اقتحام.

فالناس هناك في مناطق مثل جنين وغيرها مستعدون دائماً للخروج من منازلهم فجأة إما شهداءً تحت أنقاض منازلهم المقصوفة أو إلى المعتقلات الصهيونية عند المداهمات، ما يترك للحياة طبيعة خاصة، ترسم ملامحها جلياً في إظهار القوة ومعاني الصمود أمام أوجه الظلم الذي يعانونه.

“إنّني أخشى فقط من نقلي إلى المستشفى أو أن يأتيَ اليوم الذي يتمّ فيه إخراجي من تحت الأنقاض وأنا غير محتشمة، فأنام بكامل ثيابي وحجابي كل ليلة”
(سيدة فلسطينية)

تقول إحدى النساء الفلسطينيات في جنين لوسائل الإعلام: “إنّني أخشى فقط من نقلي إلى المستشفى أو أن يأتيَ اليوم الذي يتمّ فيه إخراجي من تحت الأنقاض وأنا غير محتشمة، فأنام بكامل ثيابي وحجابي كل ليلة”، وتقول أخرى: “تعودنا على مرافقة الموت لنا في كل لحظة فمنذ صغري فقدت والدي وثلاثة من إخوتي الذين استُشهدوا خلال مشاركتهم في الانتفاضة وأنا أطلب إلى الله كل يوم أن أخرج من منزلي مستورة” وفقاً للهجتها العامية.

الرسالة الإعلامية

يتجاهل الإعلام تسليط الضوء على الأضرار النفسية لواقع اضطراب الأمان والاستقرار الذي يخلقه الصهاينة، ضمن استراتيجية معروفة، لتطبيق الترانسفير أو ما يُعرف بتهجير الفلسطينيين، وهي سياسة اتبعتها “إسرائيل” منذ نشأتها المشبوهة، وتقوم على إحلال المستوطنين المرتزقة مكان سكان الأرض الأصليين، لتغيير الديموغرافيا التي ترعبها وتكشف زيف دعايتها.

وتمارس الصهيونية، لاستمرار نهجها الإحلالي، جميع أساليب الترهيب والتهجير القسري، وعلى رأسها الإبقاء على نزعة الخوف وعدم الشعور بالأمان المعيشي لدى العوائل الفلسطينية، في محاولة لطي الوعي، وزعزعة القيم الأصيلة من خلال التلاعب بالحاجات الرئيسية.. وليس الحصار الخانق والإفقار والتخويف المستمر إلا بعضاً من هذه السياسات، في الوقت الذي تقدّم السلطة فيه جميع إمكانات الحياة لموالينها الملتزمين بعدم إحراج اتفاقياتها الأمنية مع العدو.

فمفهوم “الأمان” يُعتبر ضمن المفاهيم الرئيسية في التأثير على الرأي العام، ومحاولة اختراق الصمود النفسي للأفراد والمجتمع وتغيير المبادئ الثابتة أو ما يُعرف بمجموعة القيم التي يتربى عليها الإنسان ضمن بيئته ومحيطه، ويعتنقها روحياً كونها تشكّل أساساً لبنيته النفسية وفاصلاً بين الخير والشر، ويبني عليها معتقداته واستجابته لبقية المؤثرات وفقاً لأخصائيين اجتماعيين ونفسيين.

ووفقاً لخبراء أُسس تشكيل الرأي العام، فإنّ القيم الأساسية لا يمكن تغييرها بالاحتكاك المباشر أو من خلال الرسائل الإعلامية والتي ستواجه بممانعة حقيقية من المتلقين بحيث لا تنفع “البروباغندا” الصهيونية بالتأثير في صلابتها، وإنّما تتطلب ضغطاً حقيقياً ولعباً على الحاجات والدوافع التي تُسمّى بـ”الغريزية” لتحقيق الاختراق في ما يخص الأبعاد الوطنية والدينية وضرب منظومة القيم.

لم تتمكن التغطيات الإعلامية للاقتحامات الصهيونية من خلق رأي عام حقيقي يدفع الحكومات خجلاً لاتخاذ مواقف داعمة للضحية مثل ما حصل في تداعيات الزلزال الأخيرة واضطرار المجتمع الدولي لإرسال مساعدات الإغاثة والتظاهر بالدعم والمساندة رغم الخلاف السياسي

وفي مناقشة مع مراقبين وخبراء، رافقت التغطيات الإعلامية العربية للاقتحامات الصهيونية وجرائمها صبغة البطولة والتحدي وإظهار عدم تأثير الممارسات الصهيونية على الصمود الفلسطيني، مع التركيز على التضحية والفداء والتصدي وقدرة تحمُّل الألم وغيرها، واضعة في حسبانها التعاطف الشعبي العربي المضمون، في الوقت الذي حرصت فيه التغطيات الأجنبية على سبكها في معرض الصياغة الخبرية الجافة بل المتحيزة للطرف الصهيوني من خلال إظهاره على أنّه الشعب اللطيف الذي يعاني الإرهاب، إلا ما قلّ وندر من الطرفين، من دون أن تصل جميعها إلى خلق رأي عام حقيقي يدفع الحكومات خجلاً لاتخاذ مواقف داعمة للضحية مثل ما حصل في تداعيات الزلزال الأخيرة واضطرار المجتمع الدولي لإرسال مساعدات الإغاثة والتظاهر بالدعم والمساندة رغم الخلاف السياسي.

المآذن

إنطلاق الآذان في غير موعده وتكبيرات المساجد في الأحياء الفلسطينية هي بمثابة صفارات إنذار لتنبيه القاطنين إلى وجود حالات اقتحام مجموعات صهيونية لأحيائهم، فترتدي النساء غطاء الرأس ويحمل المقاومون سلاحهم خاصة وأنّهم يمتنعون عن استخدام أجهزة الجوال للتواصل في مثل تلك الحالات حتى لا تسمح برصدهم وقصف مكان وصول المكالمة وانطلاقها. 

أوسلو

تُعيد عمليات الاقتحام المتكررة للجيش الإسرائيلي المذعور النقاش حول مآلات “أوسلو”، والمنافع التي تحصدها السلطة من استمرار التعاون الأمني مع الاحتلال حتى من حيث الاحترام، فالعدو الإسرائيلي لم يكلّف نفسه حفظ ماء وجه السلطة في اقتحاماته، بينما ما يردعه فعلياً هو حجم المقاومة في المناطق وتحذيرات الفصائل من ردود الفعل، ولعل ذلك يكون خير تذكير للسلطة بأهمية الحفاظ على الوجود المقاوم ودعمه لتتمكن من فرض أو على الأقل امتلاك حقّ النقاش وإبداء الرأي في أي مفاوضات قد تحصل وتحت أي غطاء دولي.

وتُذكّر تقارير إسرائلية عديدة بامتناعها عن التقدّم لاعتقال مطلوبين وفقاً لرأيها أو اغتيالهم ضمن الأراضي الخارجة عن سلطتها المباشرة -حسب اتفاقية أوسلو- مثل المناطق المشتركة، خوفاً من انهيار الاتفاقية في بدايتها وبوجود عناصر مقاومة مستعدة بفارغ الصبر لتفريغ الاتفاق من محتوى وهم السلطة، والانتقام من العدو وإعادة الوضع إلى ما كان عليه، أما اليوم فالسلطة المدجنة لا تشكّل أي عائق للصهاينة بل تُعتبر موظفاً أمنياً عندها.

المجتمع الدولي

إنّ المجتمع الدولي الذي يتغاضى منذ 75 عاماً عن الجراح الفلسطينية، يعيد إظهار وجهه القبيح مرة جديدة في كارثة الزلزال المدمر، فاختلفت أوجه الدعم لتركيا وسوريا في تفريق بين الدماء والنكبات اعتادها مسبّبوها، لدرجة أنّ بعض قادة الرأي طالبوا المجتمع الدولي في حال لم يرغب بالتعامل مع النظام على حد وصفه، إلى إرسال المساعدات بالطريقة نفسها التي أرسلوا فيها الأسلحة، في إشارة إلى كونهم أهم أسباب ما وصلت إليه الأمور.. من عجز عن التصدي للكارثة، إلى حجم الأبنية المهدمة جراء ما لحق بها من عمليات التدمير على أيدي الفصائل الإرهابية.

يتغاضى المجتمع الدولي عن الأضرار النفسية الكبيرة للاعتداءات الإسرائلية، وهو أمر ليس بغريب على رد فعل تلك العصبة الأممية الباهت على تقرير لها نفسها يؤكد أنّ العام الماضي كان العام الأكثر دموية في الأراضي المحتلة

ويتغاضى المجتمع الدولي عن الأضرار النفسية الكبيرة للاعتداءات الإسرائلية، وهو أمر ليس بغريب على رد فعل تلك العصبة الأممية الباهت على تقرير لها نفسها يؤكد أنّ العام الماضي كان العام الأكثر دموية في الأراضي المحتلة، مع تركيز العدو على القتل المباشر من خلال استخدام الرصاص القاتل، والإصابات المتعمدة في الرأس والقلب، في الوقت الذي تنقل فيه الحملات الإعلامية تأثُّر مجتمعاتها وتعاطفها مع حادثة تافهة قد لا تخص الإنسان، لتتقنّع بغطاء الإنسانية الذي بات فضفاضاً عليها.

ويتجاهل ذلك المجتمع بدموعه الكاذبة و”قلق” رئيسه الدائم جميع الأضرار النفسية والعاطفية التي تلحق بالأُسر والأطفال، ويهرعون لـ”الطبطبة” على “إسرائيل” عندما تصيبها واحدة من صواريخ الردع الخفيفة، ويحزنون لمعاناة الخوف والفزع اللذين لحقا بسارقي فلسطين، والمرتزقة ومن تمّ جلبهم من كل حدب وصوب لإسكانهم محل أصحاب الأرض والحق، ما يؤكد وحدة النظرة والصف والدماء العربية، والنظرة الغربية نفسها للدول العربية، فالدول العربية هبّت لإرسال المساعدات في توافق غير معهود كاسرةً الحصار الأمريكي، على أمل أن تكسر القرار الأمريكي أيضاً وترفع الظلم عن فلسطين العربية.

وفي الختام، يحقّ لنا التساؤل: هل هي بحكم العادة؟.. فهل تعوّدنا على مشاهد القتل والظلم في فلسطين لدرجة بتنا غير قادرين على تمييزها، وإدخالها منطقة الشعور، بينما يتحرك المجتمع والشعوب في العالم لنصرة حادثة الزلزال المروعة التي تستحق كل التعاطف، وهل بات موت الفلسطينيين طبيعياً وروتينياً لهذه الدرجة؟ لا بد أن نبحث عن الإجابات في أنفسنا وبين أقراننا!.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , ,