الهويات اليهودية والصهيونية: بين الاختلاف وتوحيد الأهداف

التصنيفات : |
أبريل 4, 2023 7:27 ص

*نسيب شمس

قال عضو الكنيست من حزب “الصهيونية المتدينة” اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش، إنّ دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لـ”إسرائيل”، كان ينبغي عليه أن “ينهي المهمة” وأن يطرد جميع العرب من البلاد عند تأسيسها. في ما يعلّل دوف ليئور السبب في الحرب على قطاع غزة هو تساهل الكيان الصهيوني مع المقاومة في غزة. وهذا سببه ابتعاد اليهود عن دينهم، أي أنّهم لو اتّبعوا تعاليم دينهم لكانوا قد قضوا على جميع الفلسطينيين في قطاع غزة.

على وقع هذه التصريحات تعيش “إسرائيل” صراعاً داخلياً غير مسبوق، حيث ينقسم المجتمع الإسرائيلي إلى قسمين متصارعين، ويبدو أنّ تجسير الهوة بينهما صعب، أو غير ممكن في الوقت الحالي وفي ظل الظروف القائمة. وتنتظم هاتان الفئتان في معسكرين متنازعين: معسكر اليمين الجديد الذي يتولى الحكومة وفيه مجموعات من أقصى اليمين الشعبوي واليمين (القريب من فكر كهانا) والصهيونية والحردلية (المتطرفة دينياً وقوميا) واليهود الأرثوذكس (الحريديم)، في مواجهة المعارضة التي تقوم بالاحتجاج والتظاهر ضد خطة الإصلاحات القضائية لياريف ليفين وتجمع أحزاب الوسط واليسار واليمين الدولاتي. ولكل فئة سماتها الاجتماعية والإثنية ورؤيتها لطبيعة الدولة.

تتوافق الفئتان على يهودية الدولة وعلى الصهيونية لكنّهما تفترقان وتختلفان على باقي التفاصيل.

بينما يقرّ الفكر السياسي العربي بضرورة فصل اليهودية عن الصهيونية باعتبار الأولى ديناً سماوياً والثانية حركة استعمارية. أي لا علاقة بينهما. هذا الفصل تربّت عليه أجيال من العرب حتى بات ثابتاً لا يقبل القسمة أو النقاش. لكن معايشة الصراع العربي الإسرائيلي، تُظهر ضرورة إعادة النظر بهذه الفكرة التي ترسخت في العقول، فالسؤال: من هو اليهودي؟ ومن هو الصهيوني؟ وماذا يخبّئ هذا الكيان الغاصب في تفاصيله؟ لا بد من العودة الى الوراء لفهم الواقع الحالي ومنه للنفاذ إلى المستقبل.

الهويات اليهودية والتأسيس للصهيونية

بدأت بذور الفكر الصهيوني بالانتشار في أوروبا بين أتباع الحركة التطهيرية Puritanism (مذهب مسيحي بروتستانتي) في القرن السادس عشر وخاصة في إنكلترا، قبل أن تنتقل إلى اليهود أنفسهم الذين تبنّوها بعد أكثر من قرنين من الزمن خاصة ومن خلال حركة الهسكالاة (أي التنوير اليهودي) التي قادها في ألمانيا الفيلسوف اليهودي الألماني موسز مندلسون. وقد تزامنت تلك الحركة مع حالة الغليان التي سبقت الثورة الفرنسية ببضع سنوات.

“الصهيونية” مصطلح استخدمه اليهودي النمساوي تيودور هرتزل في العام 1897، والذي سبقه إليه اليهودي النمساوي “ناثان بيرنباوم” عام 1890، وذلك في مقال نُشر في مجلة “الانعتاق الذاتي”. وانعُقد المؤتمر الصهيوني الأول بعد عام من صدور كتاب تيودور هرتزل “الدولة اليهودية” وجاءت فيه الدعوة إلى هجرة اليهود نحو فلسطين وإقامة “دولة إسرائيل”.

كثير من اليهود المتدينين رفضوا الفكر الصهيوني، بل وحاربوه واعتبروه ضارّاً بمصالحهم في العالم، وأدرك علماؤهم أنّ الصهيونية حركة علمانية، ليس فقط لعلمانية مؤسسيها، وإنّما لمعارضتها الصريحة لاعتقادهم بمملكة “إسرائيل” التي سيُقيمها لهم “الماشيح” المنتظر

كانت هذه اللحظة، لحظة انطلاقة المشروع الاستيطاني الصهيوني، الذي انتهى بإقامة الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين، لكن أيضاً كانت لحظة ولادة الصراع الداخلي بين اليهود المتدينين وبين الصهيونية، وذلك قبل نكبة 1948، وقبل الهجرات اليهودية إلى فلسطين وقبل وعد بلفور. ووفقاً للباحث في التاريخ “يونس عبد الحميد” فإنّ كثيراً من اليهود المتدينين رفضوا الفكر الصهيوني، بل وحاربوه واعتبروه ضارّاً بمصالحهم في العالم، وأدرك علماؤهم أنّ الصهيونية حركة علمانية، ليس فقط لعلمانية مؤسسيها، وإنّما لمعارضتها الصريحة لاعتقادهم بمملكة “إسرائيل” التي سيُقيمها لهم “الماشيح” المنتظر.

ومنذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى عشية ظهور الكيان الصهيوني، كان مصطلح “يهودي” يشير إلى عشرات الهويات والانتماءات الدينية والإثنية والطبقية، فهناك يهود اليديشية أو الأشكيناز؛ وهم أكبر المجموعات اليهودية في العالم، وكانوا منقسمين إلى: قسم متدين يُعرّف هويته على أساس ديني، وآخر علماني يُعرّف هويته اليهودية على أساس إثني. وهناك يهود الغرب المندمجين، يتكلمون لغات بلدانهم، وينقسمون إلى متدينين ولا دينيين، أغلبهم يقيم في الولايات المتحدة، وتزايد عددهم مع هجرة يهود اليديشية وهجرة السفارديم، وهؤلاء اندمجوا في الغرب لغوياً وثقافيا. وفي المقابل، هناك يهود أمريكا الجنوبية، وهم المتحدثون بالبرتغالية والإسبانية، وانضم إليهم آلاف من الأشكيناز والسفارديم، لكنّهم تعلمنوا أو اندمجوا في المحيط اللاتيني، وفقدوا هوياتهم. وهناك أيضاً يهود الشرق والعالم الإسلامي والعربي؛ اجتمعوا تحت ظل عدة هويات يهودية، وضموا إليهم جماعات عربية وسفارديم ويديشية وغربية. وأخيراً يوجد جماعات يهودية متطرفة متفرقة، كالفالاشا، وبني إسرائيل، ويهود الصين… إلخ.

حاولت الصهيونية طرح تعريف جديد لليهودية يتّفق مع وضع اليهود الجدد في أوروبا بعد ظهور الدولة العلمانية، وذلك من خلال علمنة الأفكار القومية الكامنة في التراث الديني اليهودي

حاولت الصهيونية طرح تعريف جديد لليهودية يتّفق مع وضع اليهود الجدد في أوروبا بعد ظهور الدولة العلمانية، وذلك من خلال علمنة الأفكار القومية الكامنة في التراث الديني اليهودي، بالاستناد إلى مصدرين خارجيين: الأول معاداة الآخرين لليهود، والآخر وضع اليهود الطبقي المتميز في المجتمع الأوروبي، وقد أخذ بهذا الطرح معظم الصهاينة الأوائل.

لكنّ معظم الاتجاهات الصهيونية المعاصرة أصبحت تتبنى طرحاً آخر مستمداً من حركيات ما يُقال له “التاريخ اليهودي” تجعل اليهود كلاً يتجاوز الزمان والمكان، لا يمكن أن يحقّق ذاته إلا في فلسطين (إرتس يسرائيل في الخطاب الديني) مثلما حدث تحت حكم المملكة العبرانية المتحدة، والدولة الحمونية، إلى أن تمّ هدم الهيكل.

لكن، خلال القرن التاسع عشر تبلورت، على وقع نتائج التحديث، هويتان يهوديتان أساسيتان:
الأولى، هوية يهود غرب أوروبا الذين اندمجوا في مجتمعاتهم اقتصادياً وثقافياً ولغويا، حيث ظهرت اليهودية الإصلاحية التي فصلت الدين عن القومية والإثنية، وعرّفت اليهودية تعريفاً دينياً خالصا، كما فعلت ذلك أيضاً اليهودية الأرثوذكسية.

كان التيار العلماني هو التيار الغالب في الصهيونية، وهو يعتبر اليهود قومية، أو شعباً واحدا، وكان التيار الديني هامشياً يتحيّن الفرص لفرض تعريفه الأرثوذكسي الإثني/الديني لليهودية

كان التيار العلماني هو التيار الغالب في الصهيونية، وهو يعتبر اليهود قومية، أو شعباً واحدا، وكان التيار الديني هامشياً يتحيّن الفرص لفرض تعريفه الأرثوذكسي الإثني/الديني لليهودية. وقد أُنشئت “إسرائيل” عام 1948، وعرّفت نفسها بأنّها “دولة” الشعب اليهودي في العالم، واستمدت شرعيتها من هذا الإدعاء.

أثارت التجربة الإسرائيلية في التعامل مع مشكلة اليهودية عدداً من التناقضات التي تكشف هشاشة الأسس والإدعاءات الصهيونية بشأن اليهود، التي أُقيمت عليها “إسرائيل”، ومن ذلك:

التناقض بين الدينيين واللادينيين

إذا كان التعريف الحاخامي الأرثوذكسي أمرا معروفاً ومحددا، ويمكن الحكم عليه بمقاييس موضوعية خارجية (الولادة من أم يهودية أو التهوُّد على يد حاخام أرثوذكسي)، فإنّ التعريف العلماني لليهودية أمر ذاتي داخلي تماما، ويستحيل قياسه، لأنّه يعتمد على اعتبار اليهودي أنّه يهوديا، بناءً على ما يشعر به في قرارة نفسه، وبصرف النظر عن مدى التشابه والاختلاف بين ما يشعر به كل يهودي في العالم، ويعتبر نفسه، بناءً عليه، يهوديا. أي أنّه لا يوجد بالفعل مقياس حقيقي يمكن تعريف اليهودي العلماني على أساسه. وقد أثارت حالات كثيرة هذا الجدل بشأن يهودية اليهودي العلماني، مثال ذلك: حالة بعض أعضاء الجماعات الأرجنتينية الذين احترفوا الدعارة، وكوّنوا مؤسسات اقتصادية واجتماعية، بل دينية، خاصة بهم، وكانوا يُصرّون على تعريف أنفسهم بأنّهم يهود، وليس مجرد جماعة تمارس نشاطاً معينا، وتَنظم نفسها على هذا الأساس، كما هو سائد في النظم العلمانية. وقد تسبّب ذلك في كثير من الحرج لأعضاء الجماعة اليهودية التي كافحت هذا الجيب حتى قضت عليه تماما.

التناقض بين السفارديم والأشكيناز

الصهيونية، منذ بدايتها، عرّفت اليهودي على أنّه اليهودي الأبيض، وكانت المسألة اليهودية في شرق أوروبا هي نفسها المسألة الصهيونية، ولذا كان على اليهودي أن يُثبت بياض بشرته حتى يتمكن من المشاركة في المشروع الصهيوني ويستفيد من امتيازاته. وهذا يتعارض مع موقف الصهيونية و”إسرائيل” الذي يزعم أنّه يعبر عن يهود العالم.

ومن الملاحظ أنّ الصهيونية ترى في اليهود الشرقيين يهوداً في أوطانهم فقط، وحينما يهاجرون إلى “إسرائيل” يُعتبرون يهوداً شرقيين سفارديم.

ويعتبر الصهاينة أنّ اليهودي الجديد شخصية منتجة، على خلاف يهود المنفى.

التناقض بين التعاريف الدينية المختلفة

توجد تناقضات كثيرة بين اليهود الأرثوذكس وغيرهم من الإصلاحيين والمحافظين، تتعلق بكيفية التهوُّد. كما يوجد تناقضات مركّبة بين الطرح الصهيوني للهوية اليهودية، وبين الجماعات اليهودية خارج “إسرائيل”. فالصهيونية تهدف إلى ما يُسمّى تطهير الشخصية اليهودية، من خلال “نفي الدياسبورا” أو الشتات اليهودي، وتخليص هذه الشخصية من سلبيات المنفى، عبر تصفية الأقليات اليهودية وتحويلها إلى فلسطين، لتكون وفوداً بشرية للمشروع الصهيوني فيها، وقد قَبِل الصهاينة الدينيون المشروع الصهيوني، واندمجوا فيه، على أمل أن تسنح لهم الفرصة، في ما بعد، لفرض رؤيتهم لهوية اليهودية حسب المفهوم الأرثوذكسي. ومن ثم أصبحت هناك تناقضات أيضاً بين المشروع الصهيوني و”إسرائيل” من جهة، وبين أعضاء الجماعات اليهودية في الخارج بالمقابل.

إنّ المشهد الاجتماعي قائم اليوم على التوافق بين اليمين والمعارضة على مبدأ الصهيونية ومبدأ يهودية الكيان، مع تزعزع هيمنة الصهيونية العلمانية وظهور الجماعات الدينية الحريدية والاستيطانية التي تحوّلت إلى الخطاب والممارسة المتمادية والمبالغ فيها، وأصبح ذلك جزءاً لا يتجزأ من الصراع

وفي الختام، اليهودية والصهيونية وجهان لعملة واحدة وإنّ سياسات “إسرائيل” العنصرية تستند بالأساس على العقيدة اليهودية التي تعتبر اليهود شعب الله المختار الذين اختارهم الله ليكونوا أسياداً على العبيد ألا وهم الغوييم من غير اليهود، ولا نرى هناك فرقاً بين غوي (Goy) وآخر. ونرى تلك العنصرية والنظرة الفوقية متجلية في كثير من المقالات التي أوردها الباحث أحمد أشقر في كتابه: “التهجير والإبادة: الفقه اليهودي المعاصر تجاه العرب” وخاصة المقالة العاشرة بعنوان “قتل الأبرياء” للحاخام “يوسي أليتسور” الذي يدعو فيها إلى قتل جميع العرب بمن فيهم الأبرياء من الشيوخ والأطفال والنساء. وهم يبررون ذلك بأنّه انتقام رباني من الغوييم (Goyem) الذين يعادون اليهود لأنّهم بالتالي يعادون الله الذي ميّزهم عن غيرهم.

اليوم، يعتبر اليمين الإسرائيلي أنّ المعارضة تراخت في تحقيق الصهيونية الحقّة، وتفرّدت في الحكم، وترى المعارضة أنّ اليمين يدمر الصهيونية ويأخذ “الدولة” التي حقّقتها إلى الهاوية من خلال نقلها من “دولة” يهودية ديمقراطية إلى دكتاتورية، في ما يسير أقصى اليمين الجديد باتجاه إعادة بناء المشروع الصهيوني على ركائز جديدة تستبدل الصهيونية العلمانية الإسرائيلية الغربية الرخوة. وتأخذ الصهونية المستجدة بقيادة أقصى اليمين من قاموس الصهيونية المؤسسة قيمها المركزية، وتوظفها لاستكمال المشروع الصهيوني والدفع لتنفيذه بعد التراخي حيال ذلك.

لا بد من فهم الصراع الإسرائيلي الداخلي الحالي، على أنّه صراع مركّب ومتعدد الطبقات تتصارع فيه المكونات الإسرائيلية، صراع أجيال، جيل جديد يسعى للتربع على السلطة عبر ترسيخ هيمنته، علماً أنّ المشهد الاجتماعي قائم اليوم على التوافق بين اليمين والمعارضة على مبدأ الصهيونية ومبدأ يهودية الكيان، مع تزعزع هيمنة الصهيونية العلمانية وظهور الجماعات الدينية الحريدية والاستيطانية التي تحوّلت إلى الخطاب والممارسة المتمادية والمبالغ فيها، وأصبح ذلك جزءاً لا يتجزأ من الصراع. 

لا شك بأنّ الصراعات التي تعيشها “إسرائيل”، منذ ولادة فكرة “دولة اليهود” في جميع أطوارها، هي أوهن من بيت العنكبوت، فهل سيتداعى الهيكل، ويكون الخراب ونهاية كيان العدوان؟، سنرى في القادم من الأيام إلى أين ستؤول الأمور، وإنّ غداً لناظره لقريب.

لذلك فإنّ الصراع ليس صراع حدود بل صراع وجود، ولا بد من عودة فلسطين من البحر إلى النهر حرة مستقلة.

*باحث وكاتب لبناني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , ,