“صلاح” يُصلح “كامب ديفيد” وأشقاءها

التصنيفات : |
يونيو 6, 2023 9:00 ص

*أحمد حسن

على الرغم من الأهمية الفائقة للدلالات العسكرية والأمنية لعملية الجندي المصري، محمد صلاح، الأخيرة على الحدود مع فلسطين المحتلة فإنّ الدلالة الأهم والأخطر هي كشفها عن توسّع دائرة “النكسة” في عملية كيّ الوعي الفلسطيني والعربي المستمرة منذ عقود والتي شارك بها عدد هائل من الدول و”اللوبيات” ومراكز “الثينك تانك” والمؤسسات الفكرية والاقتصادية والإعلامية والأفراد “المثقفين” ورجال الدين والدنيا وما إلى ذلك.

فمنذ أن ثبّتت الحركة الصهيونية العالمية وجهتها نحو أرض فلسطين كمكان لدولتها الموعودة، بدأت تعمل على مسارين متوازيين -وإن تقدّم أحدهما على الآخر وفق الظروف- الأول التحضير المادي والبشري والعسكري والدولي لتنفيذ الخطة، والثاني العمل على زرع فكرة “قيام إسرائيل” في الوعي الغربي سواء لتحقيق إرادة الرب “يهوه” لـ”الشعب المختار” في الأرض الموعودة أو لتقريب موعد معركة “هرماجدون” لمن يؤمن بها، دون أن تغفل الاستناد إلى معايير أخلاقية نفعية دعماً لكل ما سبق، وكان خير من عبّر عن ذلك “اللورد بلفور” ذاته حين أعلن أنّ “الصهيونية، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، جيدة أو سيئة، متجذرة في التقاليد القديمة، واحتياجاتها الحالية، وتطلعاتها المستقبلية، ذات أهمية أعمق بكثير من رغبات وتطلعات 700000 عربي يعيشون الآن في تلك الأرض القديمة”.

“إنّ وسائل الإعلام تخلق إدراكاً وهمياً للعالم الحقيقي، ووقف، أي الخطاب، خلف “كامب ديفيد” وما تناسل منها مثل “أوسلو” و”وادي عربة” وصولاً إلى “اتفاقيات أبراهام” الأخيرة”
(بيير بورديو)

وبالطبع، لم تهمل الصهيونية أهمية كيّ وعي الضحية وأهلها، فعملت، ومن يؤيدها، على زرع فكرة بين العرب مفادها أنّ فلسطين ليست قضيتهم، وبالتالي ليست مشكلتهم، وأكثر من ذلك جرى إقناعهم، بالترهيب والترغيب، أنّه من الممكن أن يستفيدوا من “الحركة الصهيونية” إذا وقفوا معها بدل أن يتعرضوا لتبعات معارضتها، وهذه المعادلة كانت لبّ “الخطاب” الذي تكفّل بترويجه ساسة ومثقفون ورجال دين ووسائل إعلام عربية مختلفة اعتمدت على مقولة عالم الاجتماع الفرنسي “بيير بورديو”: “إنّ وسائل الإعلام تخلق إدراكاً وهمياً للعالم الحقيقي، ووقف، أي الخطاب، خلف “كامب ديفيد” وما تناسل منها مثل “أوسلو” و”وادي عربة” وصولاً إلى “اتفاقيات أبراهام” الأخيرة”.

بيد أنّ ذلك كله لم ينجح، كما تثبت الوقائع، في الطمس الكامل لجوهر القضية الفلسطينية في الوعي الشعبي العربي، وبعض العالمي، كقضية حقّ جامع عربي وإنساني وأخلاقي، وإذا كان للمقاومة الفلسطينية المتجذّرة الدور الأكبر في هذا الفشل فإنّ أفعال وجرائم “إسرائيل” المستمرة بحقّ الشعب الفلسطيني وحماية الغرب الدائمة لها رغم هذه الجرائم كان لهما أيضاً دوراً كبيراً في ذلك، وخلال الفترة السابقة كانت الدلائل على هذا الفشل لا تُعدّ ولا تُحصى، وبالتالي لم يكن هذا الجندي المصري إلا حلقة في سلسلة طويلة فيها من سبق كـ”سليمان خاطر” مثلاً، وفيها من سيلحق بالتأكيد.

لن يصدق أحد قصص وسائل الإعلام الرسمي سواء تلك التي اتهمته بالتشدّد الأيديولوجي الراديكالي أو أنّه يعاني من اضطرابات نفسية أو تلك التي قالت إنّ القصة كلها هي قضية مخدرات وتهريبها، فتلك “قصص” يعي الوعي الشعبي العربي أنّها مصنّعة رسمياً خاصة وأنّها أُلصقت بكل من فعل مثله سابقاً

ما يؤكد ذلك أنّ محمد صلاح، الجندي المصري البسيط، كان قد خطط مسبقا، باعتراف صحيفة معاريف الإسرائيلية، “لمسار تسلّل له ودرس الموقع وعرف كيف يصل إلى تلك النقطة، ثم أطلق النار على الجنود في نقطة الحراسة”، وهذا ما يعني أنّها عملية مدروسة وواعية لرجل صاحب قرار محدّد، وبالتالي لن يصدق أحد قصص وسائل الإعلام الرسمي سواء تلك التي اتهمته بالتشدّد الأيديولوجي الراديكالي أو أنّه يعاني من اضطرابات نفسية أو تلك التي قالت إنّ القصة كلها هي قضية مخدرات وتهريبها، فتلك “قصص” يعي الوعي الشعبي العربي أنّها مصنّعة رسمياً خاصة وأنّها أُلصقت بكل من فعل مثله سابقا.

إنّ “صلاح” كان، وبتوقيت عمليته المتزامن مع ذكرى “النكسة”، وبحقيقة أنّه عمرياً من جيل “كامب ديفيد” وما تلاها، يدق، كما كل من سبقه، مسماراً جديداً في نعش صنّاع الوعي الزائف ويثبت أنّ “القضية” باقية في أذهان الجميع

والأمر، فإنّ “صلاح” كان، وبتوقيت عمليته المتزامن مع ذكرى “النكسة”، وبحقيقة أنّه عمرياً من جيل “كامب ديفيد” وما تلاها، يدق، كما كل من سبقه، مسماراً جديداً في نعش صنّاع الوعي الزائف ويثبت أنّ “القضية” باقية في أذهان الجميع الأمر الذي يثبته أيضاً ذلك الاحتفاء الكبير به على وسائل التواصل الاجتماعي -وهي اليوم ترمومتر الرأي العام الشعبي- التي لقّبته بـ”فخر العرب الحقيقي”.

وبالمحصلة، إنّهم، في “إسرائيل”، ينشغلون اليوم في البحث عن الخلل الأمني الذي سمح لـ”صلاح” بالتسلل، كما بالتساؤل عن وجود مؤشرات على تغيير كبير للأسوأ عند حدود مصر قد تصل إلى عمليات تنطلق من غزة لسيناء وأسر جنود إسرائيليين، وتلك للحقيقة أسئلة ضرورية يجدر بهم الانشغال بها لكن ما يجب أن يشغلهم أكثر هو حقيقة أنّ عملية كيّ الوعي العربي تطلق أنفاسها الأخيرة وأنّ الخطر لن يقتصر على حدود مصر فقط.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , , , , ,