أمراض الشعر والشعراء في الحالة الفلسطينية

التصنيفات : |
يونيو 9, 2023 6:49 ص

*حمزة البشتاوي

منذ صدور كتاب الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968 للأديب غسان كنفاني، اتخذ الشعر الفلسطيني مكانة بارزة في جوهر الشعر وفي الحضور بالمناسبات والمهرجانات السياسية، وكان يقوم بتمجيد العمل الفدائي وسرد السيرة الكفاحية والنضالية للشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، ومن أبرز ميزاته أنّه شعر درامي وملحمي وحماسي إشتهر منه الغنائي المليء بالحنين والحزن والفرح وبثّ روح الشجاعة والتحذير من اليأس وفقدان الأمل.

وحقّق الشعر الفلسطيني حضوراً مميزاً في سبعينات وثمانينات و حتى تسعينات القرن الماضي، وكان المعبّر الأمثل عن الهوية الثقافية ومقاومة الاحتلال بما حمله من مضامين عن قيم البطولة والتحدي والصمود وعدم الخوف من الموت وتحمل معاناة وعذابات اللجوء والسجون والحصار.

وارتبط الشعر الفلسطيني تاريخياً بالثورة والمقاومة والدفاع عن الحقيقة الفلسطينية في الزمان والمكان، ولكنّه اليوم وبعد رحيل شعراء الأرض المحتلة وغيرهم من الرموز الشعرية الفلسطينية، بدأت تظهر عليه الحالة المرضية. مع أنّ القضية والثورة والمقاومة التي مجّدها واحتفى بها وحملته وحملها ما زالت موجودة ولكن لماذا أصبح هذا الشعر الذي كان يجري داخل شرايين الجماهير ويلهب ويضيء بإبداع فني ساحر على حكايتها.. حكاية الأرض والإنسان حضوره شبه معدوم ويحضر فقط عند (الغاوين).

ويمكن ملاحظة هذا الغياب والفراغ والحالة المرضية من خلال مئات الأسماء لشعراء، بعضهم ينشر ما يكتب على “الفايس بوك” وغيره من منصات التواصل الإجتماعي ويحصلون بسبب تلك الكتابات على أكثر من شهادة تقدير تصدرها صفحات على مواقع التواصل الإجتماعي تحمل مسمّيات مختلفة أدبية وإجتماعية وحتى أكاديمية، وهي بالأصل لا تعرف ما هو الشعر ومن هو الشاعر.

وعلى الرغم من وجود عدد قليل من الشعراء الفلسطينيين داخل فلسطين وخارجها، فإنّ الناس تنجذب عادة نحو الشاعر النجم الذي يبقى شعره حاضراً في ذاكرتهم ويومياتهم ويحفظون منه بعض الأبيات بعد أن وصلهم مطبوعاً أو عبر الأغاني أو من خلال مقاطع مكتوبة على الجدران. والمثال الأبرز على ذلك هو الشاعر محمود درويش حيث يمكن أن تقرأ مقاطع وأبيات من شعره وأنت تسير في أزقة المخيّمات أو في الطرقات العامة حيث ترى على جدرانها كلمات مثل (تنسى كأنّك لم تكن) و(على هذه الأرض ما يستحق الحياة) و(الحب كذبتنا الصادقة) وأحياناً مقاطع شعرية تحمل صوراً جميلة ومدهشة مثل (نازلاً من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل البلاد/ وكانت ألسنة انفصال البحر عن مدن الرماد/ وكنت وحدي.. ثم وحدي/ آهٍ يا وحدي وأحمد/ كان اغتراب البحر بين رصاصتين/ مخيّماً ينمو وينجب زعتراً ومقاتلين/ وساعداً يشتد في النسيان/ ذاكرة تجيء من القطارات التي تمضي/ أرصفة بلا مستقبلين وياسمين).

وتحضر أيضاً قصائد مغناة للشاعر توفيق زياد وخاصة قصيدة (أناديكم) وقصائد الشاعر أحمد دحبور التي غنتها فرقة العاشقين إضافة لقصائد سميح القاسم وعز الدين المناصرة وخالد أبو خالد.

لكنّ الشعر اليوم مريض وفي حالة تراجع لا تتناسب مع تقدّم المقاومة في فلسطين

ولكنّ الشعر اليوم مريض وفي حالة تراجع لا تتناسب مع تقدّم المقاومة في فلسطين، وهنا يمكن طرح السؤال: هل مات الشعر الذي عُرف بشعر الثورة والمقاومة؟، بعد أن ملّت الناس سماع الخطابات (الشعرية) ممن يقولون ما لا يفعلون.

أم أنّ الأزمة أبعد من ذلك بعد أن أصبح الشعر والسياسية وجهان لعملة واحدة دون تحقيق النجاح المطلوب على صعيد التعبئة والتحريض وتشكيل الوعي الإجتماعي والمساهمة في صياغة الوجدان الشعبي العام والحفاظ على جمالية الشعر الذي يضع الشاعر وجمهوره في المنطقة الآمنة من التفاعل والقبول .

ويمكن من خلال الواقع الحالي ملاحظة تراجع علاقة الناس مع الشعر والشعراء بل يمكن القول إنّها لم تعد موجودة سوى في المناسبات التي يحضر فيها الشعر كخطاب ممل يصيب اللغة الشعرية بالإرهاق والشيخوخة، وهذا (الشعر) الرديء أساء للمقاومة أكثر مما خدمها خاصة من قِبل الشعراء الذي فهموا الشعر بأنّه مخصص لكتابة الرسائل الغرامية والخطابات الحماسية.

وما زاد في الطين بلة تفكك العلاقة ما بين الثقافة والإعلام وتمجيد ثقافة الإستهلاك وغياب النقاد عن المشهد الشعري وإنشغالهم بالمحاباة ودفء الصداقات وأحياناً الدفع المسبق

وما زاد في الطين بلة تفكك العلاقة ما بين الثقافة والإعلام وتمجيد ثقافة الإستهلاك وغياب النقاد عن المشهد الشعري وإنشغالهم بالمحاباة ودفء الصداقات وأحياناً الدفع المسبق.

وللأزمة أيضاً أوجه عدة منها ما هو مرتبط بالشاعر والناشر والقارئ. حيث يقول أحد الناشرين إنّه طلب من الشعراء الذي نشروا عنده دواوينهم الشعرية أن يشتروها هم  بسعر زهيد وعندما رفضوا قام بفرمها قائلا: لو بُعث المتنبي وأبو تمام فلن أنشر لهما.

إذا، هل يمكن القول إنّ صلاحية الشعر الفلسطيني الذي عُرف بشعر الثورة والمقاومة قد انتهت أم أنّه قد أصبح عاجزاً فنياً عن التجديد والتحديث وملامسة مشاعر الناس.

*كاتب وإعلامي فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , ,