بين إيميليانو زاباتا وعبد القادر الحسيني إرث الثورات

التصنيفات : |
يوليو 24, 2023 6:46 ص

*عبد الرحمن جاسم

لا يحظى مقاومٌ من أمريكا الوسطى -خلافاً لجيفارا إذا اعتبرناه كوبياً وليس أرجنتينيا- بمقدار الاهتمام الذي يحظى به إيمليانو زاباتا. نمر الجنوب El Tigre del Sur)) أحد أشهر جنرالات الثورة المكسيكية، وأحد الأربعة الكبار في تلك الثورة رفقة بانشو فيا، فرانشيسكو ماديرو وباسكال أوروزكو. في إطار مواز، يأتي عبد القادر الحسيني، كواحد من الشخصيات الفلسطينية القليلة والتي لا يختلف إثنان على نضالها، شجاعتها وشخصيتها الفريدة. بطل القسطل، المعركة الشهيرة بمواجهة عصابات الهاجاناه والشتيرن والبالماخ، أتى إلى الثورة على صهوة جواده ممتشقاً بندقيته، شأنه شأن نظيره المكسيكي. قاوم فيا غير مرة الديكتاتور المقيم في بلاده بورفوريو دياز، أحد أقذر الديكتاتوريين لا في المكسيك فحسب، بل في القارة الأمريكية بأكملها، وانتصر عليه غير مرة، خصوصاً في معركة كواتيلا (أو كواتيا كما تُلفظ هناك) والذي دحر فيها الجيش النظام. توازيا، حارب الحسيني الصهاينة وعصاباتهم المدعومة بالجيش البريطاني، بقوته وسلاحه. كان البريطانيون ينسقون بشكلٍ سري -وعلني أحيانا- مع الصهاينة، فيتركونهم يحصلون على “سلاحهم” بسهولة فائقة. بنفس الوقت قاوم زاباتا الديكتاتوريات المكسيكية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت تفضّل -كعادة الإمبراطوريات- حلفاء ضعاف، ديكتاتوريين، مكروهين من شعوبهم.

خاض الحسيني التجربة عينها حينما قاوم “غياب” الروح الثورية داخل وخارج فلسطين؛ صراع العائلات الفلسطينية، أفرز صراعات لا يحكي عنها كثر حاليا، لكنّ هذا الصراع سرعان ما تمخّض عن “جماعات” لا ترغب في قتال الصهاينة والمحتلين البريطانيين

حاول زاباتا إصلاح النظام الحاكم بعد الانتصار، ونُسبت الإصلاحات الزراعية إليه بالإسم أي الإصلاحات الثاباتية (تُلفظ الزاء في كثير من اللغات اللاتينية ثاءا)، هذا الأمر أغضب زملاءه السابقين، فاضطُّر لمحاربة الثوار أنفسهم، فحارب ماديرو الذي أصبح رئيساً للبلاد، وتشاجر مع فيا وإن لم يصل الأمر للصراع المسلّح. خاض الحسيني التجربة عينها حينما قاوم “غياب” الروح الثورية داخل وخارج فلسطين؛ فبعض العائلات الكبرى والأثرياء الفلسطينيين اعتبروا أنَّ “البريطاني” سيعطينا ما نريد لكن بقليل من المداراة (كما يُنقل عن أحد الشخصيات المقدسية المعروفة، والتي سرعان ما فرّت إلى أوروبا بعد العام 1948 إثر إعلان قيام دولة الاحتلال). صراع العائلات الفلسطينية، أفرز صراعات لا يحكي عنها كثر حاليا، لكنّ هذا الصراع سرعان ما تمخّض عن “جماعات” لا ترغب في قتال الصهاينة والمحتلين البريطانيين، مما أخّر ظهور جهة/طرف “جمعي/متحد” يحارب الصهاينة سنوات طوال. وانتظر الفلسطينيون حتى ستينيات القرن الماضي، أي بعد أكثر من عشر سنوات على احتلال فلسطين بشكل معلن، حينما ظهرت  منظمة التحرير الفلسطينية بشكلها العلني والظاهر. عربيا، زار الحسيني مرات عدة عواصم عربية، وخاص نقاشات حادة في جامعة الدول العربية، والتي “احتاجت” لمناقشات ومداولات ومماحكات للسماح بإرسال متطوعين عرب مسلّحين للقتال في فلسطين. يومها ارتأت الجامعة العربية منع فوزي القاوقجي، قائد الجيش العربي للإنقاذ، الابتعاد عن المشاركة في تلك المعارك تجنباً للصراع مع المفتي أمين الحسيني، هذا بحسب الإعلان الرسمي، أما الحقيقة وللدقة، فإنّ الأمر ارتبط بميل المفتي الحسيني للألمان، في ما مال وسيطر جلوب باشا (البريطاني) ومن لفّ لفيفه على الجامعة العربية ومالوا لإضعاف الحسيني سياسياً أولا، انتظاراً لهزيمته عسكرياً أمام قوى صهيونية مدججة بالسلاح ومدربة جيدا. هذه الألعاب السياسية والتي يجيدها قادة “المأساة” العرب أدت لضياع فلسطين، ولا تزال.

يُقال أنّ زاباتا كان من الأمثلة العليا للحسيني، إذ أنّ كليهما تشابها في كثير من التفاصيل: قدومهما من عائلات ثرية بعض الشيء، اقترابهما من الناس وقتالهما لأجلهم، وفوق كل هذا موهبة القيادة الفطرية، والشخصية القيادية القاعدية

حاول زاباتا أن يطبّق أنظمة إصلاحية كثيرة، ولكنّه لم يستطع إلا قليلا، وهو نفس ما فعله الحسيني على قدر استطاعته. ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر، يُقال أنّ زاباتا كان من الأمثلة العليا للحسيني، إذ أنّ كليهما تشابها في كثير من التفاصيل: قدومهما من عائلات ثرية بعض الشيء، اقترابهما من الناس وقتالهما لأجلهم، وفوق كل هذا موهبة القيادة الفطرية، والشخصية القيادية القاعدية. هذا التشابه، قاد كثيرين لتبنّي أسطورة تقول إنّ “الحسيني اشترى بندقية زاباتا والتي أحضرها له ثري فلسطيني/سوري من المكسيك وإنّه قاتل بها”، طبعاً لا مصدر رسمي للقصة سوى بعض الإشارات هنا وهناك، وقد تكون الحكاية “محض خيال بخيال”، لكنّ التشابه الكبير بين الشخصيتين قاد الرسام السوري برهان كركوتلي إلى رسمهما في لوحة معاً في تخليد للنضاليْن الفلسطيني والمكسيكي بمواجهة القوى العظمى وإمبراطوريات الدم.

اكتسب الحسيني شهرته الكبيرة، قبل، إبان، وبعد معركة القسطل، والتي أرّخها باستشهاده على الرغم من انتصاره فيها. قاتل الحسيني مع 56 مقاتلاً فقط، وانتصر في القسطل، القرية الفلسطينية الصغيرة، والتي تحصّن فيها مئات من مقاتلي العصابات الصهيونية، بهدف إنشاء ما يشبه “دولة احتلال صهيونية” (قبل إعلان العام 1948 الرسمي). هناك مصادر تاريخية تشير إلى أنّه لاحقا، قدم إلى المعركة 500 من المتطوّعين إلى المعركة، لكن وكعادة اللعبة التاريخية وكتابتها، هناك تضارب أرقام، لذلك قد يكون الرقم غير دقيق، وأظن أنّه لا يتعدى المئتين على أكبر تقدير، وقد كان هؤلاء المقاومين من جميع الاتجاهات السياسية، وليس كما يدّعي كثير من الكتّاب “المؤدلجين” أنّهم من الحركات الإسلامية فحسب، فالوطنية كانت ولا تزال سمة الجميع، والدفاع عن فلسطين شأن عربي ومشرقي عام.

زاباتا، كما عبد القادر، أثبتا أنّ الإرادة الشخصية، واختيار المعركة الصواب، و”الصراع” المكلل بالشهادة لا ينساه الناس، ولا يتقادم ويسقط بمرور الزمن.

فيفا زباتا، عاش عبد القادر الحسيني.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,