عودة الشجرة المنكوسة إلى السماء

التصنيفات : |
أغسطس 10, 2023 5:01 ص

*بسّام جميل

لم تكُ يدي التي ترتجف، بل كان الطريق حيث اعتاد زكريا أن يسير في أزقة رام الله القديمة، تلك التي يقول إنّها تشبهه، وربما أراها تشبه يده الواثبة في الشعر، فأسكب انتظاري الآن، على مهل. كنت قبل لحظة أودعه من خلال صفحات الأصدقاء، أطالع شعره وأنظر إلى مرآتي التي تهيم في تفاصيل ما كتب منذ عقود إلى الآن، ولم أجد لديّ رغبة بأن ألقيَ السلام، فكل لحظة في قراءة شعره يكون بيننا سلام.

أعود معه بذاكرة المكان، لأزمنة لم يكُ لي أن أدرك معناها في الخبر الذي يسرد أحوال البلاد، فالشعر رسول صادق يحمل معه الجوهر الأبعد للمعنى، فلا تسعفنا نشرات الأخبار، بإدراك تجليات الإنسان في عصف خيباته، ولا أثمان الصمود على جباه المكلومين.

بعضهم يحضر حتى في الغياب، لكنّه يضيء في غيابه إذا كان إنساناً حقا، فكيف بالشاعر/ الإنسان، والمثقف الذي اعتاد على الاشتباك في المعنى ولأجله، ليكون رمحاً متقدماً في صفوف مقاومة تلبي نداء أبناء الأرض فترمي حصادها لينبتَ في حقولنا حرية.

يقول في إحدى قصائده:

“طلقة واحدة في المسدس

حتى يربض الموت عند الباب

رئة واحدة في الضلوع

كيما يكون النفس ثقيلاً

نسخة واحدة من المفتاح

كي لا يدخل إلا الأشباح”

لربما كان زكريا يفكر بجدوى هذا الاشتباك المستمر حتى آخر حرف في اللغة

تراه كان يفكر بالفدائي الذي لم يعد لديه خيار آخر غير أن يضحّي بنفسه، جسداً ومعنى، ليواجه أشد مخاوفه المسكونة بأشباح يرقبها تهيم  لتحاصره أبدا، ولربما كان زكريا يفكر بجدوى هذا الاشتباك المستمر حتى آخر حرف في اللغة.

رأيته مراراً في فكرتي عنه وما سمعت، في تلك الزاوية من المقهى، ماسكاً قلمه ليخطَّ ما يظنّها حجارة على ورق، فيرصف الطريق هنا ويُعبّد المعنى هناك، فتبتسم له وجوه عابرة وأخرى لم تزل في مكانها كنافذة بيت قديم، ودالية تعربش على جدار يميل بقدر خفة أراوح الشهداء في البلاد. وأردت أن أقرأ أكثر، فأشارككم بعضاً من تلك الأنفاس الثائرة.

“لديّ خمسون نشيداً في قلبي، لكنّني لا أتمكن من استخراج حتى واحد منها. قلبي صموت، ولساني سكّير ثرثار. ففكَّ يا ربّ عقدة الصمت عن قلبي كي أدوّن أناشيدي. أريد أن أكتبها وأن أغنيها كي أستعيد من خطفهم الموت منّي. فهدف كل نشيد هو استعادة الموتى. وأنا أعيش من أجل استعادتهم.

أعرف أنّ الموت مثل كسرى آنوشروان، لم تُفلتْ قبضته أسيراً قط. لكنّني لا أستسلم أبدا. سأظلّ أغنّي حتى يعودوا. سوف أهبط سلالم الجحيم وأعود بهم. سيكونون قربي هنا. ولن أقبل بأقل من هذا.

ليس الشعر لعبة كلمات. الشعر حرب بالسيف والرمح والقوس والنشّاب حتى استخلاص الأسرى من قبضة آسريهم”.

لم ينتهِ زكريا بالشعر، بل كان بوابة المعنى له، ومنها جال في تاريخ الأرض وإرهاصات الحضارة التي آلت إلينا لنجدنا في حصارات لا تنتهي. كتب وبحث في أسئلة الحياة، في الميثولوجيا والأديان القديمة، قدّم رؤيته في الأدب السردي كالرواية وأدب الأطفال.

كانت الأديان، وفكرة التجلي التي أراد من خلالها فهم نفسه، فهو المطرود من جنة الله، يجد نفسه شجرة منكوسة على الأرض

كانت الأديان، وفكرة التجلي التي أراد من خلالها فهم نفسه، فهو المطرود من جنة الله، يجد نفسه شجرة منكوسة على الأرض: “إنّ رؤية الإنسان كشجرة منكوسة ليست معتقداً يونانياً في الحقيقة، بل معتقداً عاماً للقدماء، فالإنسان سقط من السماء إلى الأرض في لحظة ما وسكنها، ولكنّ حنينه الدائم للسماء”.

إذاً، في لحظة فارقة، قرر الشاعر أن يترك المباشر في خطابه الشعري ويتجه نحو الرمزية، ليتماهى مع طبيعة فلسطين، من نخلها إلى زهرات تنتشي على وجه هذه الأرض كالنمش في وجه صبية مفتونة بجمالها، فأدرك القراء -على قلتهم- أنّهم أمام صوت مغاير، لم يترك لهم فرصاً كثيرة ليتابعوا مرابض الكلم في قراءة الأحداث الآنية، ورغم ذلك فقد كان زكريا صوتاً صاخباً في ساح النضال الداخلي، لا في مواجهة الاحتلال فحسب، بل في التصدي لتعنت السلطة الفلسطينية وضعفها أمام مصالحها التي تنساق نحو أهداف العدو الصهيوني، ليواجه عدة مرات، مسارات هذه السلطة، ويرفض التنسيق الأمني، ويُعلي صوت الجماهير، ليكون صوتهم في ساحات الوطن المحتل، فيتمّ اعتقاله حينا، وتهميش صوته الشعري أحياناً كثيرة.

أصبح الأهم لديك، أن تعود فلسطين الطبيعية، أن ينالها واجب الحماية، كما يجب أن يكون لصاحب الرؤيا.. بأن تستعيد الأرض عافيتها، فهي الجوهر في هذا الصراع مع الاحتلال وأذياله في بلادنا

رغم كل هذا، وجدناك يا “زكريا” تجوب تلال فلسطين، تقرأ تربتها، تنقل أخبارها برمزيتك العالية، لتصادق مخلوقات هذه الأرض وترعى بعضها في شرودك المدني، فأصبح الأهم لديك، أن تعود فلسطين الطبيعية، أن ينالها واجب الحماية، كما يجب أن يكون لصاحب الرؤيا.. بأن تستعيد الأرض عافيتها، فهي الجوهر في هذا الصراع مع الاحتلال وأذياله في بلادنا.

لسنوات طويلة، وبعد أن خاض معارك الكلمة والنضال في مسيرته، منذ السبعينيات حتى رحيله العاجل، عابراً باجتياح لبنان إلى تونس والعودة إلى الوطن، عرف “زكريا” المتعب من الهامش، أنّه يمثل هذا الهامش، فكتب عنه، وعن حيوات الظل، لنستعيد معه مشهدية قلّ نظيرها في إرثنا الأدبي الفلسطيني، وبهذا وحده، يمكننا استعادة الأرض محررة من أوثان الوهم وكشط الغبار عن جوهرها، لتصبح ثنائية الأرض والإنسان متلازمة تحرير لا شعاراً مستعار.

لمحة

وُلد الشاعر الراحل زكريا محمد “داوود محمد عيد ” في الزاوية بالقرب من نابلس عام 1950. درس الأدب العربي في جامعة بغداد، وبعد تخرجه في العام 1975، انتقل إلى بيروت ومارس الصحافة. عمل منذ الثمانينيات في منابر إعلامية وثقافية فلسطينية مختلفة في بيروت وعمّان ودمشق، أهمها مجلات: “الحرية” و”الفكر الديمقراطي”.

عاد إلى فلسطين عام 1994، وتولّى منصب نائب رئيس تحرير مجلة “الكرمل” التي ترأسها محمود درويش. أقام في رام الله وعمل صحفياً ومحرراً ومدرباً على الكتابة الإبداعية.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , , ,