انسحِبوا!

التصنيفات : |
أكتوبر 28, 2023 10:24 ص

*رامي سلوم – صمود:

رجاءً كفى.. انسحِبوا.. هي كلمة لا بد من توجيهها اليوم لنا جميعا، لنطبقَ على زناد الإعلام ونكون صفاً واحداً مع المطبقين على زناد السلاح في قلب ملحمة جديدة من ملاحم الإنسانية يخوضها شعب أعزل ومقاومته المحاصرة.

وبالتأكيد، ليس هو الوقت الملائم لتوجيهها إلى من يبذلون الدماء والعطاء بالأرواح وفلذات الأكباد، هناك في غزة الصامدة في “طوفان الأقصى”، الذي أغرق الغطرسة الإسرائيلية ومرّغها في وحول مستنقعات المواجهة مع أصحاب الأرض، والتي تكثر المطالبة بها حالياً عبر ما نشاهده على صفحات وسائل التواصل الإجتماعية اليوم وعبر المحطات الإعلامية وضيوفها، حقناً للدماء وحزناً على أطفالنا وعائلاتنا ممن يتجرعون نيران الهمجية الصهيونية، وهي تشبه في طياتها مطالب الاحتلال نفسه بالاستسلام وتسليم أسراه دون قيد أو شرط.

نقولها اليوم: “رجاءً كفى.. انسحِبوا”، لجميع من يبكي ويصرخ بعيداً ويطالب فصائل المقاومة بوقف المعركة، شاداً من حيث يدري أو لا يدري على أيدي الاحتلال الذي اغتصب جميع الأعراف الدولية ليصل بنا إلى هذه المطالب أو “الولولة” إن صحّ التعبير. 

بالتأكيد، تؤلمنا جميعاً مشاهد القتل اليومية التي تبرع بها طائرات العدو الإسرائيلي وصواريخه وآلاته العسكرية المدمرة، ضد الأطفال والمدنيين العزّل، بعد أن استكانت تحت وطأة هجمات المقاومة، وهرب جنودهم بعيداً وتحوّل عتيدهم إلى غنائم بين أيدي الرجال الحقيقيين.

غالبية من يتبرّجون اليوم بعباءة الإنسانية والحزن، لم يخوضوا حرباً أو يحملوا سلاحا، أو يشعروا بذل مهانة الاحتلال، أو يحاصَروا لعقود يحكمهم الجوع والمرض وانعدام أفق المستقبل، ليأتوا وينصحوا من ذاق الجحيم حتى تورّم في جسده بألا يغضب.. والذين ربما علينا أن نسألهم بعد كل ذلك: “أخبرني متى تغضب؟”

غير أنّنا اليوم، كما في كل مرة نثبت فيها قلة ثقتنا، وضعف معرفتنا، ونزعتنا لعرض آرائنا في أمور قد لا نعرف عنها أبعد من أنوفنا على أحسن تقدير، ليظهر “الفيسبوك” وجميع مفرزات “ميتا” الأخرى، فجأة، عشرات بل آلاف المنظمات الإنسانية الفردية العاجزة، وآلافاً أخرى من الخبراء العسكريين المحبطين من وراء “جوّالاتهم” المترفة.

اغضبوا

فغالبية من يتبرّجون اليوم بعباءة الإنسانية والحزن، لم يخوضوا حرباً أو يحملوا سلاحا، أو يشعروا بذل مهانة الاحتلال، أو يحاصَروا لعقود يحكمهم الجوع والمرض وانعدام أفق المستقبل، ليأتوا وينصحوا من ذاق الجحيم حتى تورّم في جسده بألا يغضب.. والذين ربما علينا أن نسألهم بعد كل ذلك: “أخبرني متى تغضب؟”.

قد يبدو مقالاً غاضبا.. ونعتذر من كل حر قد يشعر بالإساءة مما جاء سابقا، ومن غلبته عاطفته تحت وطأة المشاهد الوحشية التي يرتكبها الاحتلال ببراعة تصل إلى “الريادة العالمية” في مجال القمع والقتل والتدمير والتنكيل والجبن، والتي تفوقت على الأم الحنون (الولايات المتحدة)، وذلك في مشهد يومي لا يقتصر عمره الزمني على 20 يوماً فقط وهو عمر “الحرب الأخيرة”، بل منذ ولادة هذه الأكذوبة المشوهة عام 1948.

غير أنّنا في الوقت نفسه، لا بد أن نعي جميعاً أنّ القرار وقت الحرب في يد العسكريين والمقاتلين، وهذا الأمر لا يُعتبر ضمن أصناف الديكتاتورية وكم الأفواه، بل يطبَّق في أكثر الدول ديمقراطية وحرصاً على حرية التعبير كما تدعي، فحتى الأجنحة السياسية لفصائل المقاومة ابتعدت وقلّصت تصريحاتها، وإن قالت، تقول ما يرضي الله والقابضين على الزناد في الجبهات.

المطلوب أن نكون أكثر وعياً لما يحدث، وأن تصبح قوة وسائل التواصل الإجتماعي التي أثبتت شبهتها بإجراءت الحظر والتقييد، سلاحاً داعماً للمقاومة وقراراتها، وإن أضاءت على الجرائم فلتكن إنذاراً برد الفعل، وإيماناً بالصمود

أما مشاعرنا ومطالباتنا ونقدنا فليس وقتها، غير أنّ التعبير عن الميول اليوم هو بمثابة ضغط إضافي على فصائل المقاومة التي تمتلك من الأدوات والمعلومات ما يجعلها قادرة على اتخاذ قرارات صائبة، وتمتلك من الحكمة أبعد بكثير من “الحِكم” المنسوخة حول التروي وتحكيم العقل، التي نعيد نشرها على صفحاتنا الحزينة، كيف لا وهي ابنة نفس الشارع الذي تدمر المنازل والأبنية فوقه.

لا نلوم عجزنا اليوم، ونحن ندرك يقين شبابنا وقدرته وفاعليته التي تحدّها عتبة الأنظمة، غير أنّ المطلوب أن نكون أكثر وعياً لما يحدث، وأن تصبح قوة وسائل التواصل الإجتماعي التي أثبتت شبهتها بإجراءت الحظر والتقييد، سلاحاً داعماً للمقاومة وقراراتها، وإن أضاءت على الجرائم فلتكن إنذاراً برد الفعل، وإيماناً بالصمود، ولتكن مقارنة مع عشرات ومئات المجازر الأخرى التي لم تطلب “إسرائيل” ذلك الجنين العالمي المشوّه ذريعة لتنفيذها عبر عقود “بلفورها”، سوى رغبتها الجارفة بالدماء، وعنصريتها المقيتة.

قاطعوا

قد نصرخ ونشتم ونبكي، ولكن ليكن ذلك مع نفسنا المتعبة، ولنخرج إلى المعركة بوجوه منتصرة، فآلة التدمير الشيطانية تضرب بوحشية لتفريغ عجزها، وتحاول إذلال المقاومة بصرخاتنا، وإثقال كاهلها بالمسؤولية عن معركة جميعنا سمع عن الاستعداد لها من قِبل العدو سابقاً من دون مبرر، وقد يكون لدى المقاومة ومحورها معلومات يقينة حولها، لتتحول الضربة الأولى إلى جريمة، وتغفو جرائم الاحتلال هنيئة.

لا نطلب اليوم مقاطعة وسائل التواصل، ولا يمكننا تحقيق ذلك عبر أيام قليلة، ولكنّ الموضوع لا بد أن يُدرّس لاحقاً لتحميل الثمن من شارك في قتلنا عبر حظر مشاهد إجرام العدو، فنحن مليار عربي من شأنهم في حال أعلنوا المقاطعة وفعّلوها أن يتسببوا في تراجع أي منصة وتخفيض أسهمها وخسارة مشغّليها عشرات المليارات، ونكون بذلك قد حقّقنا شيئاً لمعركتنا وأطفالنا غير البكاء

لقد بكيت نعم.. وربما أخرجت من الشتائم ما لم تعرفه شفتاي سابقاً حين عجزت الكلمات التي أدعي إتقانها عن وصف ما أشعر به، وكم ذكرت مظفر النواب وأنا “أصارحهم بحقيقتهم لست خجولا”، وتابعت إعلام العدو ومتحدثيه، الذين يبدو الذل في وجوههم، ويتحدثون بوقاحة عن النصر في لعبة “بروباغندا” ودعاية يتقنونها، ويبذخون عليها، وعلينا أن نتقنها أيضا.

والمطلوب اليوم، أن يتحوّل عجزنا تأييداً لمن هم ليسوا عاجزين، أو يتحوّل صمتاً يطفئ جمر الملامة حولهم، فالمعركة في بدايتها، وطبول انتصاراتها ستظهر قريباً في جميع الملفات، من الداخل الإسرائيلي وإسقاط حكومته العنصرية، إلى ملفات الأسرى، وغيرها من غياهب السياسة.

إنّ الإعلام اليوم، وخصوصاً “الإجتماعي”، يتطلب معرفة وخبرة بأدواته وتأثيره على المجتمعات، والإستفادة من إمكاناته لتفعيل الإنتصار وتحقيق النتيجة المطلوبة، وليس منبراً لعرض الآراء والأوجاع كما نعتقد.

لا نطلب اليوم مقاطعة وسائل التواصل، ولا يمكننا تحقيق ذلك عبر أيام قليلة، ولكنّ الموضوع لا بد أن يُدرّس لاحقاً لتحميل الثمن من شارك في قتلنا عبر حظر مشاهد إجرام العدو، فنحن مليار عربي من شأنهم في حال أعلنوا المقاطعة وفعّلوها أن يتسببوا في تراجع أي منصة وتخفيض أسهمها وخسارة مشغّليها عشرات المليارات، ونكون بذلك قد حقّقنا شيئاً لمعركتنا وأطفالنا غير البكاء.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , ,