إنّها حرب ثقافية وغزة رسالة الإنسان

التصنيفات : |
نوفمبر 11, 2023 7:18 ص

*موسى جرادات

أعادت المذبحة المفتوحة في غزة، من أكثر من شهر ، طرح أسئلة مصيرية تتعلق بطبيعة العلاقة بين الغرب والكيان الصهيوني، فالاعتقاد  السائد بين مختلف مكونات النخب الأيديولوجية العربية وحتى العالمية، أنّ تلك العلاقة محكومة فقط بصلات نفعية، وأنّ “إسرائيل” بوصفها حاملة طائرات متقدمة في قلب العالم العربي، تؤمّن للغرب مجتمعا، جملة من الوظائف المختلفة والتي تتكثّف بتثبيت الهيمنة المطلقة على العالم العربي.

وتحت هذا التصور لوضعية هذا الكيان، انقسمت تلك النخب، ضمن تيارين أساسيين: الأول، والذي ظل سائداً طوال العقود الثلاثة الماضية، يرى بوجوب الانفتاح على كيان الاحتلال، من أجل إخراج المنطقة من آتون المعارك المستمرة طوال عقود، وأصحاب هذا الرأي تصوروا أنّ الاعتراف والتطبيع مع هذا الكيان، يقرّبهم أكثر من الغرب ويبعد شبح الحرب عن المنطقة، وكذلك يفرغ دورة الشر الكامن داخل هذا الكيان، حتى بتنا نرى الحكومات العربية ونخبها المختلفة، اقتنعت أنّ هذا الممر إجباري ووحيد لتقديم إجابة عن تلك العلاقة، لكنّها تناست أو نسيت أنّ كل ما يجري على حساب الشعب الفلسطيني، ويهدّد وجوده على أرضه، ومن معادلة الأرض مقابل السلام، إلى معادلة السلام مقابل السلام، مع ربط المنطقة بسلسلة من المشاريع الاقتصادية العملاقة، التي تجتمع وتصب في النهاية داخل هذا الكيان، باعتباره النموذج الفريد والوحيد والمتفرد في المنطقة، والغريب أنّ أصحاب هذا الرأي من حكومات ونخب، لا يمتّون للمدنية بأدنى صلة، والسمة الغالبة على تلك الدول الاستبداد المطلق بحقّ شعوبها، بمعاونة حفنة من المثقفين والنخب والإعلاميين الذين يروّجون، وما زالوا حتى هذا الوقت، لهذا الادعاء.

وكما قال نتنياهو قبل أسبوعين “إنّها حرب دفاعاً عن عتبة البيت”، فإنّ الحرب أيضاً على عتبات تلك الدول المطبّعة

بالمقابل، فإنّ التيار الثاني الذي رفع شعار “المقاومة في هذا الكيان طريق وحيد لإزالته من الوجود”، يندفع اليوم وفي ذروة معركة طوفان الاقصى، ليعيد القضية إلى مربعها الأول، زمنياً ومكانياً إلى زمن النكبة الأولى، ويطوي صفحة الخمس وسبعين عاماً الماضية، بهذا الاندفاع والجسارة، لهذا نرى كل هذا الخوف والتوتر في مباني الدول المطبّعة، التي تساهم بكل ما تملك من قوة في هذه المذبحة المفتوحة المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني، فنتائج  الحرب مدمرة عليها في حال انتصرت المقاومة وأعادت تشكيل المشهد السياسي، وكما قال نتنياهو قبل أسبوعين “إنّها حرب دفاعاً عن عتبة البيت”، فإنّ الحرب أيضاً على عتبات تلك الدول المطبّعة.

صحيح أنّ ملامح المشهد لم تتضح بعد، لكنّ اللحظة التاريخية المنتظرة باتت واضحة أمام الأنظار.

لا يمكن لأي عاقل في أي مكان في العالم أن يفسر هذا الهجوم الغربي على المنطقة، ولا يقدّم أسباباً ثقافية وعقائدية لهذا الهجوم غير المسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، نعم.. الموقف ثقافي واضح، تكشفه مواقف الدول الغربية، ويعبّر عنه القادة والساسة وكل وسائل الإعلام الغربية التي تجنّدت منذ اللحظة الأولى للحرب، لبناء رؤية كاذبة غير قابلة للتصديق، تبرر كل هذا الموت والتدمير في غزة، يتمّ ذلك بكل وضوح، فالحرب الآن بين محور النور وبين محور الظلام، قادة الاحتلال ابتدعوا هذا العنوان العريض وتبنّاه الغرب دون خجل، ولا يمكن تفسير هذا العنوان دون الغوص في أعماقه، فالخير قيمة أخلاقية مطلقة يمتلكها الغرب والكيان الصهيوني، في المقابل محور الشر وعاصمته غزة اليوم، تحت هذا الشعار بُنيت الحضارة الغربية على أنقاض الشعوب الأصلية في الأمريكيتين، وعلى أنقاض عشرات ملايين من الأفارقة الذين سيقوا عبيداً للغرب وحضارته في القرن الخامس عشر.

بُنيت تلك الحضارة وواصلت مسارها، صحيح تلوّنت وتشكّلت، لكنّها بقيت تحمل تناقضها الأساس، وهو أنّ تلك الحضارة تعيش على ثنائية الداخل والخارج، وكل من يخرج عن طوع تلك الثنائية القاتلة مصيره الفناء وفق منطوق وفعل الآلة الغربية القاتلة

بُنيت تلك الحضارة وواصلت مسارها، صحيح تلوّنت وتشكّلت، لكنّها بقيت تحمل تناقضها الأساس، وهو أنّ تلك الحضارة تعيش على ثنائية الداخل والخارج، ففي داخل الأسوار تعيش تلك الحضارة كل مفاهيم الحرية ورغد العيش والتقدم المعرفي، في ما الخارج على الدوام مكان للنهب المتواصل والدائم، وكل من يخرج عن طوع تلك الثنائية القاتلة مصيره الفناء وفق منطوق وفعل الآلة الغربية القاتلة.

صحيح أنّ لـ”طوفان الأقصى” ارتداده على المجال المجتمعي الغربي، الذي أضحى اليوم أكثر توقاً لطرح الأسئلة الكبرى ذات المضامين الإنسانية، بعيداً عن كل القيود التي تفرضها عليهم، لكنّ هذا المسار ما زال في بدايته ولا يملك أدنى تأثير في المدى المنظور، لكن يمكن التعويل عليه في مقاربة حضارية منتظرة، يتمّ فيها البحث في مشتركات إنسانية واحدة، بعيداً عن أسطورة الأنا الغربية المستعلية والمتعالية.

فلسطين، وغزة على وجه التحديد وعبر “طوفان الاقصى”، تكتب رسالة أصحاب الأرض، تحفر عميقاً في وجدان أمتها، عبر مقاومتها الباسلة التي تحولت إلى عنوان نهوض عربي وإسلامي وعالمي، لهذا لا يمكن تفسير هذا المد الجماهيري المتواصل في مختلف القارات، سوى أنّ هذه الرسالة قرأت بإمعان، ووجدت صداها، طالما أنّ القاتل واحد، فإنّ الضحية واحدة في كل مكان، هي تتجاوز حدود التعاطف مع الفلسطينيين اليوم، الذين يعيشون المحرقة الغربية، لتصل إلى أعناقهم جميعا، فكل الشعوب المقهورة ترى في غزة رسالة الإنسانية، فالعالم رفع الصوت عاليا، نحن لسنا عبيد المنزل ولا عبيد الحقول، وغزة فعلتها وفِعلتها نموذج حي وواضح على قدرة الإنسان أن يصنع حريته في ميدان القتال.

غزة الصامدة اليوم وهي تلعق جراحها، هي الأمل الباقي، وحربها بوسع الإنسانية مجتمعة، وانتصارها أيضاً عنوان لولادة الإنسان الحي والحر والباقي

إنّها حرب ثقافية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، للنظر كيف تخلى الغرب عن دعم أوكرانيا وجاء مسرعاً إلى بلادنا، بعد أن تحمّل خسائر بمئات المليارات في أوكرانيا، وتركها في مهب الريح، ليحتضن وكر الشر في “تل أبيب”، جوهر الحضارة الغربية وتاجها، وسقوطها يعني أنّ مصير دول الغرب قد أصبح على المحك، بينما أوكرانيا لا تتعدى كونها عارضاً مرضياً يمكن التعايش معه، لكن في القدس والأقصى وغزة فالأمر مختلف، فإذا حُسمت هنا يطوي العرب والمسلمون كل الغزوات الصليبية الماضية دون رجعة.

إنّها حرب ثقافية قبل كل شيء، لهذا يمنعون الهواء والماء والدواء عن غزة، ويقلبون الحقائق في كل شيء، ويمنعون وقف إطلاق النار ولو لدقيفة واحدة، حتى لا يُسمع صوت غزة، وحتى لا تتحول إلى نموذج عملي في مقارعة الظلم في كل مكان، غزة الصامدة اليوم وهي تلعق جراحها، هي الأمل الباقي، وحربها بوسع الإنسانية مجتمعة، وانتصارها أيضاً عنوان لولادة الإنسان الحي والحر والباقي.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , ,