عن فلسفة الوجود في ما يحدث: مكاسب “الطوفان”

التصنيفات : |
نوفمبر 18, 2023 9:18 ص

*عبد الرحمن جاسم

خلف كل ما يحدث هناك فلسفة بسيطة، فلسفة تشرح الأمر أيّما كان، يشرح الفيلسوف الفرنسي آلان فينكلكروت كيف أنّه بغياب “فلسفة” للأشياء يفقد كل شيءٍ معناه، ويطرح باسكال بروكنز الفيلسوف والروائي الفرنسي أنّ قيمة الأشياء تحددها “فلسفة” وجودها، وما إذا كانت تؤديها أم لا. من هنا فإنّ فلسفة وجود الشيء هي في أدائه له وتأديته للواجب المتأتي من “اسمه” أصلاً بمعنى أنّه كيف يكون الكرسي كرسياً عليه ببساطة أن يؤدي دور الكرسي، وأن يُستخدم ككرسي، من هنا يأتي وجوده وفلسفة وجوده متناظرين وفي ذات الحيز، ومن هنا يكسب مكانته. ماذا لو فقد الكرسي قدرته على أداء دوره؟ هنا يفقد فلسفة وجود، وإما يُرمى في العدم، أو يتحوّل لشيء آخر، ذي فلسفة أخرى. ما حدث في اليوم السابع من الشهر الماضي غيّر في فلسفة وجود أموراً كثيرة خلال الأيام السابقة، ولهذا كان لا بد من الإضاءة على هذه التفاصيل التي تشكّل لا مؤشراً في الوعي الجمعي العربي كما يشير الأمريكي إميل ثورندياك، حين حديثه عن اللاوعي والوعي الجمعي، بل أيضاً تصوراً لما سيأتي.

في البداية، واحدة من الأمور الأهم التي يمكن الحديث عنها مطولاً هي أنّ ما حدث قد كسر إمكانية التطبيع مع العدو الصهيوني، وأنهى إلى الأبد تقبّل الشارع العربي، بجميع طبقاته، حتى تلك المستفيدة من العدو مادياً واقتصادياً أن تمتلك المقدرة على “تبرير” قبولها له. أدى توحش وتغوّل الصهاينة في الأيام الأولى للعدوان الوحشي على غزة إلى تعويم فكرة “رفض التطبيع” بكافة أشكاله وقطعها من دابرها وبشكلٍ حاسم. هنا، تظهر الفكرة التي بدأنا عندها، فلسفة التطبيع قائمة على أنّ هذا “الكيان” ليس عدوا، وأنّه “طيب” و “مظلوم” و”مسكين”، و”فُهم بشكل خاطئ”، ما ثبت أنّه ليس كذلك أبدا، وبالتالي فقد فلسفة وجوده لكي يتمّ “نرملته”(normalization). النقطة الثانية أنّ الشارع العربي، خصوصاً في طبقاته الوسطى والدنيا ينظر إلى من يحارب كيان الاحتلال الصهيوني نظرة مقدّسة، ويعتبر أنّه “فقط الرجال الشجعان والأبطال” يحاربون هذا العدو، من هنا اكتسب رجال المقاومات: الفلسطينية، اللبنانية، الإسلامية وجميع من قاوم الصهاينة سمعة أشبه بالأساطير. يشرح مرثيا إلياد الباحث والفيلسوف الروماني وأحد أشهر من تحدثوا حول الأساطير، أنّ الأساطير تتكوّن أصلاً من “رجال تغلّبوا على ما لا يستطيع معظم الرجال التغلّب عليه”. استطاع رجال المقاومات (وهنا نستعمل كلمة رجل ورجال بمعنى “راجل” أي أنّه يمشي على رجلين وهو أصل الكلمة، وليس في الأمر قصد الذكورة من شيء)، أن يخلقوا فلسفة الوجود هذه، فرُفعت صور السيد حسن نصرالله في شوارع القاهرة العاصمة العربية الأهم، كما جميع عواصم العرب والمسلمين إبان دحر الصهيونية في العام 2000، وبعدها وقت الصمود في العام 2006.

نفس الأمر ينسحب اليوم على فدائيي حركة حماس ورجالاتها وقادتها، وخصوصاً رمزيها أبوعبيدة ومحمد الضيف (وإن بدرجة أقل يحيى السنوار). هنا تحضر فلسفة الوجود البسيطة للمقاومة ضد الصهاينة، يقدّس الشعب العربي والمسلم عداء “الرجال حملة البنادق” (والآن الصواريخ) للكيان الصهيوني، وأثبتت وسائل التواصل الاجتماعي نجاعتها حينما زادت من تأثير “القدسية” بمشاهد ظهر من خلالها “رجال الله” يدمرون “حصون وبروج” العدو المتمثّلة في دباباته “الأقدر” الميركافا وبسهولة وشجاعة استثنائتين ومن مسافة صفر. إنّه صراع حول فلسفة الوجود ذاتها: ما قيمة المقاومة إن لم تقاوم العدو الأبرز لهذه الأمة؟، ما قيمة سلاح هذه المقاومة إن لم تستعمله بوجه أعداء هذه الأمة؟.. في اللحظة التي تفعل المقاومة هذا، يلتف الشارع العربي/ المسلم حولها، وتصبح “قدسه”.

هؤلاء شيعة والعدو يهودي، بالتالي نحن “لا دخل لنا بالأمر”

النقطة الثالثة، خلال العقد الفائت، وخلال حرب حزب الله، كمقاومة مسلحة متقدّمة وفذة بمواجهة كيان الإحتلال، لعب كثير من وعاظ السلاطين على تفنيد “فلسفة وجود” الحزب، مؤكدين أنّه صراع طائفي/ ديني بحت، وليس في سبيل “معاداة عدو الأمة”، نازعين عنه “فلسفة المقاومة” أصلا، وكان لسان حال وعاظ السلاطين، وشيوخ البلاط هؤلاء: “اللهم أضرب الظالمين بالظالمين” هؤلاء شيعة والعدو يهودي، بالتالي نحن “لا دخل لنا بالأمر”. ساد هذا الخطاب ردحاً من الزمن، وعظم منسوبه كثيراً مع العام 2012 بعد دخول حزب الله إلى سوريا. هنا، استفاقت جيوش وعاظ السلاطين لتشير لجمهورها: ألم نقل لكم؟، إنّهم “قتلة السنة” في إشارة للأكثرية السورية. لعبت أدوات الإعلام دوراً في تعويم هذا الأمر، ففقد الحزب الأصفر كثيراً من “فلسفة وجوده المقاوم”، إذا أشكل عليه كثيرون دخوله إلى سوريا، بدلاً من توجهه صوب فلسطين جنوباً متناسين أنّه كحركة مقاومة يتحرّك أينما تحتاج مقاومته فكيف إذا ضربت “خاصرته” السورية. هل كان الحزب يقتل السنة في سوريا؟ لا بالتأكيد، لكن كسر “شيفرة” فلسفة الأمر يجعله منطقيا، لماذا تمّ استخدامه من قِبل هؤلاء “المتمشيخين” (ناهيك عن بعض الصحافيين والكتاب الذين كان دورهم أقل بكثير): أراد كل هؤلاء تمرير “التطبيع” و”صفقة القرن” و”اتفاقيات أبراهام” وسواها، لذلك هم بحاجة لإفهام المجتمع العربي والإسلامي أنّه “لا مقاوِم للصهاينة” وأنّ هؤلاء “المقاومين” ليسوا كذلك، فهم لا يوجهون سلاحهم صوب هذا العدو، لذلك لا حلول إلا هذه الحلول الإستسلامية، وهي المقبولة والمنطقية مع هذا الكيان (بصفته كما تمّ تطبيعه وتقديمه في النقطة الأولى).

هذه المرة كان “المقاتل والمقاوم” سنياً بشكلٍ مباشر: لا يستطيع وعاظ السلاطين هذه المرة الإشارة إلى “غيابه عن إجماع الأمة”

مع مجيء اليوم السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر، ودخول حماس إلى قلب المعركة مع الصهاينة، وبهذا الزخم الكبير تداعت الصورة السابقة، هذه المرة كان “المقاتل والمقاوم” سنياً بشكلٍ مباشر: لا يستطيع وعاظ السلاطين هذه المرة الإشارة إلى “غيابه عن إجماع الأمة” (كما أشار أحد المتمشيخين في خطابه في أحد أيام الحج حينما هاجم حزب الله وكيف أنّه يقصف كيان الإحتلال). هنا، عادت فلسفة المقاومة ووجودها إلى الظهور: إنّهم الأمة بحد ذاتها، فلماذا لا تلتف الأمة حولهم؟، بنفس الوقت كان حزب الله يكمل ما دأب عليه، بالتالي هو أكد أنّه لم يُزحزَح من مكانه، وأنّه لا يزال رأس حربة المقاومة ومشروعها الوجودي.

النقطة الرابعة، في الملحمة الإغريقية الأوديسة لهوميروس في صراع أوديسيوس مع بوسايدون إله البحر عند الإغريق، يومها يحمل أوديسيوس رمحه ويرميه بكل قوته صوب الإله المتجسد ماءا، ينظر إليه الجميع شبه ساخرين، حتى بما فيهم بحارته أنفسهم. ماذا يريد هذا “المخبول” أن يفعل، وهو يعلم بأنّ رمحه لن يقتل بوسايدون. بوسايدون نفسه لا يتحرّك حينما يمر الرمح إلى جانب وجهه، هو لا يتنبه إلى شيء حتى. نقطة دم واحدة تنزل على خد بوسايدون ستغيّر ملامح كل شيء، نقطة يشير إليها أوديسيوس بالقول: “أن تجعل إلهاً ينزف” هذه هي فلسفة هذه الرمية. وهذه هي فلسفة ما قامت به المقاومة في لبنان وفلسطين، وما بان إلى العيان بشكل واضح في السابع من الشهر الفائت. لقد ظهر أنّ الدولة التي لا تُقهر، والجيش الأقوى في الشرق الأوسط، والكيان المحمي من جميع الدول الكبرى، والآلات والمعدات التكنولوجية الحديثة، وعربة الرب (الميركافا) التي تحمي من البراكين، كلّها ضعيفة وواهنة وعاجزة أمام ثلة من رجال قرروا أن يغيّروا الواقع، وأن يؤكدوا على فلسفة وجودهم كحراك مقاوم منتصر. نزف الكيان العبري، ولا ريب أنّ مجرد معرفة أنّ الموساد أقوى أجهزة الأمن في المنطقة، كما تمّ إيهام الشارع العربي لسنوات طوال، لم يكن يعرف لا عن عملية طوفان الأقصى، ولا عن استعدادات “حماس”، ولا حتى عن مقدرتها القتالية وأسلحتها التي استُخدمت ولا تزال حتى اللحظة. أليس هذا بكافٍ لإدراك أنّ النزف كبير، وللغاية؟.

أعاد أبو عبيدة فلسفة مخاطبة العدو إلى العلن مرة أخرى، هو لم يخلقها من العدم، بل أعادها، وهي التي لطالما استخدمها قادة عرب معروفون

النقطة الخامسة، حدد الناطق باسم حركة المقاومة الإسلامية حماس، أبو عبيدة لغة جديدة في مخاطبة العدو: لقد أضاف شتائم إلى خطابه. إنّه يتعامل بعدائية ظاهرة حتى في خطابه المباشر، هو لا يهدد ويتوعد إلا ويشتم عدوّه. إنّه عربي خالص مئة بالمئة، يشبه كل أقرانه العرب منذ بدء ظهور العرب كحضارة حتى اليوم. تارة يصف عدوّه بأقذر وأحقر الكائنات، وتارة ينعته بوصف “يا ابن اليهودية”، وفي هذا منطق واضح لاستخدام المصطلح كتوصيف/ شتيمة للأم، بما للأم من اعتبار في الحضارة المشرقية. هذا الخطاب الذي قد يجده الأكاديميون شعبويا، لربما كان المقصود من خلفه هذا بالضبط، إذ أنّ هذا الخطاب خلق لغة تواصل مع شارع يشتم الصهاينة طوال الوقت بدءاً من “الله يهدّك يا إسرائيل” وصولاً حتى الألفاظ القبيحة المعروفة. أعاد أبو عبيدة فلسفة مخاطبة العدو إلى العلن مرة أخرى، هو لم يخلقها من العدم، بل أعادها، وهي التي لطالما استخدمها قادة عرب معروفون بدءاً من أبو عبيدة بن الجرّاح، وصولاً حتى طارق بن زياد وعبد الرحمن الغافقي أثناء حديثهم التحفيزي مع جيوشهم.

ظهر دور الصهاينة الحقيقي، وفلسفة وجودهم: إنّهم هنا لا لأنّهم “مطرودون” أو “مهدَّدون” أو “مظلومون”: إنّهم مشروع استيطاني، إمبريالي، إقتصادي

النقطة السادسة، أنّ المعركة هذه المرّة باتت واضحة المعالم بائنة وظاهرة، والوقوف على الحياد فيها لم يعد مقبولاً بأية طريقة، فقد أدت المجازر التي ارتكبها العدو دون أي سبب وغياب أي رادعٍ دولي أو أخلاقي عالمي إلى تأكيد فلسفة وجود المقاومات وضرورة أن “تكون قويا” بمواجهة وحوش متربصة بك. غياب أي “عدالة عالمية” وحتى “تعاطف ذو تأثير”، أكد للشارع العربي أنّها معركة “وجود نهائية” وأعاد تخليق المعضلة الأخلاقية اللانهائية، كمعضلة يوثيفرو التاريخية، حيث يكمن السؤال الأبدي: “هل المقاومة فعل ضروري/ مرغوب/ مراد لأنّها تحمي، أم أنّها مرغوبة/ مرادة/ ضرورية لأنّها تحمي؟”. النقطة السابعة والأخيرة، أنّ الصهاينة ظهر دورهم الحقيقي، وفلسفة وجودهم: إنّهم هنا لا لأنّهم “مطرودون” أو “مهدَّدون” أو “مظلومون”: إنّهم مشروع استيطاني، إمبريالي، إقتصادي كما يشير الفيلسوف الليبي الصادق النيهوم في أحد مقالته المنشورة في كتاب “الإسلام في الأسر”. فلسفة الوجود، هذه المرة، ظهرت للعيان من جراء الوقوف الأعمى للغرب وأمريكا مع الصهاينة في كل ما يفعلونه، وما سلوك الإعلام الغربي المتوحش خلال الأيام الفائتة إلا تأكيداً على أنّ وجود الكيان ضرورة “كاملة” لمشروع الاحتلالات. هنا يأتي صراع فلسفة وجود كيان الاحتلال، إنّه هنا لكي يحمي مصالح الغرب وأمريكا، فمتى فشل في ذلك بات عليهم التدخّل لإعادته إلى موقعه. وما تحرّك حاملات الطائرات والغواصات النووية الأمريكية صوب منطقتنا، وهرع روؤساء الدول الغربية بهذا الشكل إلا تأكيداً على ذات الفلسفة البسيطة: هذا كياننا الإقتصادي، الإمبريالي ولن يمسّه أحد. طبعاً كانت الصفعة أقوى بكثير مما يمكن “احتماله” وما الوحشية والتخبط الصهيونيين (إقتصاديا/ إجتماعيا، وبالتأكيد سياسيا) اليوم إلا دليلاً دامغاً على الأمر. لقد سقط الكيان وسقطت معه فلسفته، المسألة مسألة وقت.

في المحصلة، تأتي فلسفة وجود المقاومة وما حدث خلال “الطوفان” تأكيداً على أنّ ما قبل تاريخ السابع من أكتوبر الماضي ليس كما قبله، لا شعبيا، لا فلسفيا، لا فكريا، وبالتأكيد لا وجوديا، ليس لنا كمجتمع مشرقي، وليس للصهاينة بالتأكيد كقوة احتلال إمبريالية غاشمة، آن وقت أفولها.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , ,