غزة.. سردية الناس والمقاومة

التصنيفات : |
نوفمبر 20, 2023 8:13 ص

*حمزة البشتاوي

بعيداً عن مفردات الخنوع والإستسلام والصراخ والبكائيات، تصيغ غزة سرديتها وتكتب حكايتها الخاصة عن الصمود والمقاومة بمفردات ورموز وأفعال  من الواقع الذي يتماهى مع الأسطورة، بطابع ملحمي وعناصر وأفكار مرتبطة بالسياق الإجتماعي والسياسي والميداني الذي يكشف عن الكثير من الرموز الخارجة من ركام الحرب وغبار المرحلة بوعي ثوري حاسم و إبداع مدهش في العمل المقاوم وتقديم أغلى التضحيات، لتعلن غزة مجد حضورها وسرديتها العالية بمواجهة سردية الاحتلال بصمود وصبر مشتبك مع كل محاولات القتل والقهر والتغييب.

وتختزل غزة بسرديتها شديدة العمق والتأثير الكثير من الأفكار، لتصبح الحكاية والمكان والهوية والفكرة والأحداث والواقع والخيال شيئاً واحداً يعّبر بشكل مكثّف عن الإنسان والمكان المشغول بمصارعة الموت وأوجاع البلاد.

وفي حرب غير مسبوقة منذ بداية الصراع مع الاحتلال، تُعلّي غزة صوتها لتعيد بناء حكاية الوعي والصبر والمقاومة ببطولة فائقة تواجه سردية الاحتلال الدموية والتي تريد تدمير المعالم الثقافية والفكرية والسياسية والإجتماعية وإخراج الفلسطيني من المكان والتفاصيل واللغة والذكريات.

والسردية الفلسطينية ومنجزها الغزير في مجال الرواية والقصة والمسرح والشعر وغيرها من الأجناس الأدبية والفنية، تواجه سردية المحتل القائمة على تزوير الحقائق وكتابة التاريخ من منظور عسكري استيطاني يسعى لتبرير وجود كيان الاحتلال وترسيخ الرواية الصهيونية بشكل تضليلي دعائي محترف هدفه طرد الشعب الفلسطيني من الحكاية والمكان.

تحضر السردية الفلسطينية مرفوعة على فعل وصوت المقاومة وصمود الناس العالي والمسموع في كل مكان، وهذا ما عجزت الرواية الإسرائيلية عن إخفائه رغم الهيمنة على وسائل الإعلام وقطع الإتصالات والإنترنت في غزة

وبفصل جديد يتماهى مع سردية المحتل، تقوم آلة الحرب الإسرائيلية بتقديم منجزها الإجرامي عبر القصف الجوي والهمجي المتوحش لقتل غزة وناسها من كل الأعمار في المنازل وفي الشوارع ودور العبادة والمستشفيات، وأيضاً عبر قطع كل وسائل إدامة الحياة كالماء والكهرباء والدواء والغذاء، وهي سردية تتقبلها بعض الأنظمة العربية التي تعتبر مقاومة الاحتلال إرهابا، مع فبركة وتدليس روّج لهما الإعلام الغربي الرسمي، خاصة في الأيام الأولى لعملية طوفان الأقصى، حيث هيمنت في البداية الرواية الإسرائيلية التي سرعان ما انكسرت أمام الرواية الفلسطينية المدعومة من جيوش المتعاطفين مع القضية الفلسطينية حول العالم، حيث تحضر السردية الفلسطينية مرفوعة على فعل وصوت المقاومة وصمود الناس العالي والمسموع في كل مكان، وهذا ما عجزت الرواية الإسرائيلية عن إخفائه رغم الهيمنة على وسائل الإعلام وقطع الإتصالات والإنترنت في غزة، لم ينجح الإعلام الإسرائيلي والغربي بتقديم سردية تُصوّر القاتل بموقع الضحية وتُروّج الأكاذيب رغم تبنّي الرئيس الأمريكي جو بايدن لها و تراجعه لاحقاً عنها تحت ضغط الحقيقة والرأي العام.

ولم تنجح الرواية الإسرائيلية، رغم المساحة الواسعة التي يمنحها لها الإعلام الغربي، بالتفوق على سردية المقاومة التي تستمد قوتها من الحقيقة وأسطورة الصمود والفداء التي يشاهدها العالم كله وعلى الهواء مباشرة، مما أدى لحدوث تحول كبير في الوعي والرأي العام العالمي، وهذا ما عكسته المظاهرات التي عمّت الكثير من المدن والعواصم، وهذا ما أثبت تفوّق سردية المقاومة في غزة، مما دفع حتى زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد لتحذير وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية من خطر التغطية الموضوعية للحرب على غزة، لأنّ ذلك يضر بالسردية الإسرائيلية حول الحرب ومجرياتها وأسبابها وأصل الصراع مع الفلسطينيين، وطلب “لابيد” من الكتّاب والإعلاميين الحديث فقط بما يتناسب مع الرواية والمصلحة الإسرائيليتين.

السردية الإسرائيلية ومثلها الغربية تقوم على تحطيم الثوابت الأخلاقية والإنسانية، ولا يعنيها سوى إنتاج السلع وتنمية رأس المال وتراكم الثروات

وساهم كذب الرواية الإسرائيلية في انكسارها أمام السردية الفلسطينية إضافة لعنصر الوعي وما يظهر في غزة بالصوت والصورة من وحشية إسرائيلية وحرب إبادة تُشن بلا هوادة مترافقة مع تمثيل ضعيف وركيك لدور الضحية، واستجداء متقن لما سمّاه نتنياهو بالعالم المتحضر الذي لبّى النداء فوراً عبر تقديم الدعم والسلاح والتأييد الأعمى للرواية الإسرائيلية، وهذا لم يأتِ من فراغ بل تأسس على سردية معادية لا تسمح للسرديات الأخرى أو المضادة بحقّ الإختلاف، لأنّ السردية الإسرائيلية ومثلها الغربية تقوم على تحطيم الثوابت الأخلاقية والإنسانية، ولا يعنيها سوى إنتاج السلع وتنمية رأس المال وتراكم الثروات، مستغلة الموارد الطبيعية والبشرية، مدعومة بآلة قتل همجية لا سابق لها وترسانة من الأسلحة الفتاكة، وآلة إعلامية تقلب الحقائق وتثبت الكذب والتضليل.

ولكنّ سردية  غزة وصمود أهلها فضح سردية الغرب والاحتلال المتوحشة المبنية على القتل والتدمير وانتهاك كل الحدود والخطوط والحقوق وتبرير ما يُرتكب من جرائم ضد الإنسانية.

وأمام هذه الحرب والتحديات والمجازر القاسية والصعبة، تتقدّم السردية الفلسطينية فاتحة الأبواب والنوافذ لرواية تليق بالتضحيات والتاريخ والذاكرة والواقع ورفض الهزيمة والموت والإنكسار من خلال تقديم سردية كفاحية مبدعة، تتجاوز الصعوبات والألم ممتلئة بعناصر مدهشة ترفع منسوب الأمل والمقاومة للتحرر من الاحتلال والظلم والظلام.

*كاتب وإعلامي


وسوم :
, , , , , , , , , , , , ,