أبو مازن والسلطة: نهاية مسار

التصنيفات : |
نوفمبر 22, 2023 8:38 ص

*موسى جرادات

على الرغم من أنّ قيادة السلطة ومنذ سنوات، كانت تعيش لحظة في انسداد الأفق السياسي، إلا أنّ آمالها بقيت معلقة، فلربما يحصل تغيّر ما على الصعيد الدولي، يتيح لها الانخراط مرة أخرى في عملية تسوية متوهمة يمكن أن تحدث.

هذه الآمال المتوهمة بددتها لحظة 7 أكتوبر المجيدة، وأطاحت ليس فقط بتلك الآمال، بل أعادت الاعتبار للحظة الوجود الفلسطيني على المسرح الدولي، بما تحمله الرواية الفلسطينية الخالصة طوال عقود مضت.

لهذا فقد عجزت قيادة السلطة عن فهم ما يدور حولها من متغيرات دراماتيكية، وهي الباقية بفعل الفراغ الذي ألمّ بالحالة السياسية الفلسطينية، منذ غياب مؤسسها الراحل ياسر عرفات، فراغ نجحت فيه السلطة وقيادتها وعلى رأسها محمود عباس، في كل فنون التسويق والدعاية التي تبشّر بانتزاع الحقوق دون قتال، وشكّلت هذه المحطة لحظة فارقة في تاريخ الشعب الفلسطيني، ولم تسفر كل محاولات أبي مازن من انتزاع ولو حتى وعد ما بإمكانية تحقيق تلك الأجندة ولو بالمدى المنظور، بل العكس أثبتت كل الوقائع أنّ الاحتلال والغرب ماضون في القفز عن كل الحقوق التي تفرضها القضية الفلسطينية، وإذ بـ”طوفان الأقصى” يُعيد الموال الفلسطيني منذ القسّام في “يعبد” مروراً بـ”الكرامة” وانتفاضة الأقصى إلى مساره العام وسكّته الصحيحة، لتجد السلطة وقيادتها أنّها هي اللحظة المفارقة للوجع الفلسطيني.

وعليه، فإنّ لحظة الانكشاف قد بدأت تظهر بأعلى تجلياتها، عبر انخراط الكل الفلسطيني في الداخل والشتات لمتطلبات هذا “الطوفان”، الذي من الطبيعي أن يطيح بالنظام السياسي الفلسطيني، الموصوف والموسوم بالفساد وقلة الحيلة، وليس هذا فقط بل باعتباره عالة على الشعب الفلسطيني، بعد أن تجاوز هذا النظام كل محدداته التي بُني عليها والتحق بزمن الاحتلال، هذه الإطاحة التي كان يخشاها ويتخوف من حدوثها الفلسطيني، لاعتبارات كثيرة، أهمها الخوف من تعميق الانقسام، بما يخدم الاحتلال فقط.

لقد وفرت لحظة “طوفان الأقصى” المناخ الصحي، لتجاوز السلطة وقياداتها وتناقضاتها التي تعتريها منذ التأسيس وحتى هذا الوقت، تجاوزاً إيجابيا، بعد أن استطاعت “حماس” أن تقدّم نفسها اليوم بكونها رائدة المشروع الوطني، والحاضن الحي لكل قوى التحرر الفلسطيني

لقد وفرت لحظة “طوفان الأقصى” المناخ الصحي، لتجاوز السلطة وقياداتها وتناقضاتها التي تعتريها منذ التأسيس وحتى هذا الوقت، تجاوزاً إيجابيا، بعد أن استطاعت “حماس” أن تقدّم نفسها اليوم بكونها رائدة المشروع الوطني، والحاضن الحي لكل قوى التحرر الفلسطيني، صحيح أنّ هذا الإنجاز لم تتشكّل ملامحه بعد، إلا أنّ “حماس” استطاعت أن تؤمّن المناخات العامة للوصول لهكذا إنجاز متوقّع بعد نهاية الحرب.

وبالعودة إلى السلطة وقياداتها وحتى جزء كبير من كوادرها، فإنّ زمن الطوفان، قد عمّق تناقضاتها لدرجة أنّها باتت تمتلك لغتين متناقضين: الأولى، للاستهلاك المحلي وترتبط بمحاولة الإبقاء على شرعيتها عبر الوقوف الظاهري ضد الاحتلال، والثانية، لغة باطنية عديمة المعنى، تقدّم فيها نفسها على أنّ خيارها هو الأسلم للكل الفلسطيني، لغة يتناقلها القادة والكوادر تُتهم فيها “حماس” بامتلاك أجندات خارجية لا ترتبط بالمشروع الوطني الفلسطيني، ونحن هنا لسنا في وارد البحث عن هذا التناقض، ولكن ما يهمنا هو القول إنّ الكل الفلسطيني يدرك أنّ السلطة بقيادة أبي مازن ليس لديها مشروع وطني ولا حتى أي مشروع من الأساس، سلطة وظائفية مُلحقة بالاحتلال تعتاش على الصعيد المادي على عرق وتعب الفلسطينيين.

فالفلسطيني بات يرى قيادة عجوزة عاجزة تُمسك بكل مقاليد الحياة العامة للفلسطينيين، وتتعامل مع كل تلك المؤسسات باعتبارها موروثاً عائلياً لا يحقّ لأحد الاقتراب منها، فلا غرابة أن تمتلئ تلك والمؤسسات المتكلّسة والمتحجرة، بالكثير من الفضائح التي لا تنتهي

هذا الإدراك عميق وواضح لدى مختلف شرائح الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، الذي ينظر بعين ثاقبة لكل أشكال الفساد والإفساد والانقلاب على الذات الثورية والتي أحدثتها السلطة وقيادتها في الوعي الفلسطيني طوال العقدين الماضيين، بعد أن رسّخت قواعد للفساد، جعلت من جسمها الظاهر للجمهور محلّ نقد وسخرية وتندّر.

فالفلسطيني بات يرى قيادة عجوزة عاجزة تُمسك بكل مقاليد الحياة العامة للفلسطينيين، وتتعامل مع كل تلك المؤسسات باعتبارها موروثاً عائلياً لا يحقّ لأحد الاقتراب منها، فلا غرابة أن تمتلئ تلك والمؤسسات المتكلّسة والمتحجرة، بالكثير من الفضائح التي لا تنتهي، طالما أنّ القضاء والقانون والتشريع والتنفيذ، بيد سيد المقاطعة الذي جمع كل الشرعيات بيديه، فكلما كانت السلطة تُسحَق بفعل الهيمنة الإسرائيلية- الأمريكية، كانت عملية السحق تنتقل لتطال كل مباني حياة الشعب الفلسطيني: السياسية، الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية وحتى الصحية والنفسية، والرائد فيها قيادة السلطة التي أدت وظيفتها باقتدار.

نعم، لم تكن عملية طوفان الاقصى كاشفاً فقط ، بل أحدثت إنجازاً عظيماً يتجاوز تلك السلطة ومكوناتها، وهو القادر اليوم على جمع الشتات السياسي الفلسطيني، فكما كانت تقول حركة فتح دائماً إنّ بنادقها هي التي أعطتها الشرعية لتكون رائدة المشروع الوطني الفلسطيني، ها هي البنادق الحية والفاعلة والتي تحملها حركة حماس وكل قوى المقاومة تقود مشروعنا الوطني، بقيادة سياسية وعسكرية مؤتمنة لدينا، ولا يمكن للسلطة بعد اليوم أن تتجرأ على هذا الادعاء.

إنّ أبا مازن ومن معه يعيشون لحظاتهم الأخيرة، على الرغم من كل الآمال التي يُمنّون النفس بها، وهي الاستفادة من “طوفان الأقصى” باعتباره لحظة طارئة وليس لحظة مؤسسة، فكل ما يرشح عنهم من تصريحات تُفيد أنّ منطق الارتزاق في السياسة ما زال سائداً

هذا التّجرؤ كان يمكن أن يحدث في حال واحدة فقط، وهي التحاق حركة فتح في “طوفان الأقصى” منذ اللحظة الأولى له؛ وهذا لم يحدث حتى هذا الوقت، لأكثر من سبب: الأول، أنّ “فتح” ليست فتح “الياسر”، وهي مجرد مؤسسة مُلحقة بالأجهزة الأمنية ولا تمتلك قراراتها، والثاني، أنّ “فتح” غادرت مربع المقاومة منذ زمن طويل، والثالث، أنّها غير قادرة على المجايلة، أي أنّها لا تمتلك جيلاً شاباً ملتزماً بها بفعل القناعة والوعي، بل انتماءاً وظيفيا، نظير راتب مالي في نهاية الشهر.. كل هذه الأسباب مجتمعة يحيلنا إلى القول إنّ حركة فتح استهلكت حتى تاريخها النضالي في بازار السلطة، هذا الاستهلاك جعلها في وضعية التحنيط والصنمية الفاقدة للحياة.

نعم، وبكل يقين إنّ أبا مازن ومن معه يعيشون لحظاتهم الأخيرة، على الرغم من كل الآمال التي يُمنّون النفس بها، وهي الاستفادة من “طوفان الأقصى” باعتباره لحظة طارئة وليس لحظة مؤسسة، فكل ما يرشح عنهم من تصريحات تُفيد أنّ منطق الارتزاق في السياسة ما زال سائدا، في حين أنّ زمن “الطوفان” قد أزال هذا المنطق، لأنّ وظيفة “الطوفان” إزالة كل العوائق من أمام القضية، فالذي استطاع أن يعيد للقضية تألقها من جديد، على كل الأصعدة، هو القادر على ذلك على الصعيد الداخلي.

ستنتهي الحرب وسيبدأ الفلسطيني في صوغ أبجديته التي حفظها عن ظهر قلب، صحيح أنّ الألم شديد جدا، والقضايا اللاحقة معقدة ويلزمها الكثير من الوقت لكي تظهر واقعاً على الأرض، والصحيح أيضاً أنّ الاحتلال دفع ثمناً مضاعفاً لسياساته القمعية بحقّ الفلسطينيين، طال اقتصاده، واجتماعه، وجيشه، وكل مؤسساته التي ادّعت أنّها تمتلك مخزوناً استراتيجياً لا ينضب.

والأصح هنا أنّ مرتزقة المقاطعة في رام الله لم يعد لهم أي لزوم، سواء كحاجة فلسطينية داخلية، أو كحاجة للاحتلال، وتصريحات قادة العدو تؤكد دوماً على هذا الموقف،

وينطبق على قيادة السلطة المثل القائل: “لا عنب الشام ولا بلح اليمن”.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,