الهدنة وفلسفة هابرماس وحقيقة جو الإبادة الجماعية

التصنيفات : |
نوفمبر 23, 2023 8:18 ص

*أحمد حسن

يعرف الجميع أنّ لـ”الهدن” الحربية، وهدنة غزة الحالية منها، “فلسفتها” الخاصة، فهي لا تعبّر فقط عن تعب المحاربين وحاجتهم لإحصاء الخسائر وإعادة “تحميل البرنامج” لاستئناف الحرب، بقدر ما تعبّر أيضاً عن انجلاء الحرب على صورة رابح وخاسر ولو نسبيا، وبالطبع ليس بالمعنى الذي يقصده من يتحدث عن عدد الأرواح البشرية، فتلك للأسف الشديد قضية ثانوية في “فلسفة” الحرب، بل بمعنى تحقيق الأهداف التي وضعتها الأطراف المتحاربة لهذه الحرب منذ بدايتها.

بهذا المعنى تبدو “الهدنة” الحالية، توقيتاً وطبيعة ومضمونا، كإعلان أمريكي- إسرائيلي بالفشل الرسمي للحملة الحربية التي قادها “بايدن” -“جو الإبادة الجماعية” كما أسماه المتظاهرون في أمريكا- و”نتنياهو” كرد انتقامي على عملية طوفان الأقصى، لكنّ هذه الهدنة التي هلّل لها الجميع -ونحن منهم لأسباب إنسانية لا يجب التقليل من أحقّيتها- لا يجب أن تجُبَّ ما قبلها، وبالتالي لا تمنح صك براءة لمن وافق عليها مرغما، والأهم ألّا تخفي أو تزيل من الأذهان الوقائع المروّعة لمجزرة الإبادة الجماعية التي تعرض لها الفلسطينيون، بل إنّها وهي “تكشف” أكثر عن صور هذه المجزرة الإبادية يجب أن تكون دافعاً للكشف عن الأسباب والدوافع الفعلية الكامنة خلفها، والتي تفسّر وحدها كل هذا “التوحّش” الذي تجاوز بكل تأكيد قصة “طوفان الأقصى” ومفاعليه.

فإن البحث خلف الدوافع الكامنة حول التوحّد الغربي -الغرب كفكرة لا كبشر- خلف هذه “الإبادة” ومحاولة تجهيلها عبر نفيها أخلاقياً وسياسياً وفلسفيا، لا يصل بنا إلّا إلى حقيقة اعتناق هذا الغرب لفكرة الإبادة ذاتها كوسيلة حياة

والحال، فإنّ ما حاول الجميع، عرباً وغربا، تجاهله -وكلّ لأسبابه الخاصة- هو هذه الدوافع الحقيقية لهذا التوحّش وحقيقة الإسراع إلى تغطيته أخلاقياً بمبدأ حقّ الدفاع عن النفس، ومبدأ تضامن الديمقراطيات و”العالم المستنير” ضد الظلام وأبنائه، وتورّط فيه فيلسوف بقامة الألماني “يورغن هابرماس” الذي أصدر موقفاً مكتوباً ممّا يحصل في فلسطين و”إسرائيل” بعنوان: “مبادئ التضامن”، وإذا كان ذلك مفهوماً بصورة أو بأخرى، إلّا أنّ سعي الفيلسوف إلى نزع صفة الإبادة الجماعيّة لشعب برمّته عمّا يجري في فلسطين هو ما يضعه في سياق تغطية التوحّش هذا. 

وعليه، فإن البحث خلف الدوافع الكامنة حول التوحّد الغربي -الغرب كفكرة لا كبشر- خلف هذه “الإبادة” ومحاولة تجهيلها عبر نفيها أخلاقياً وسياسياً وفلسفيا، لا يصل بنا إلّا إلى حقيقة اعتناق هذا الغرب لفكرة الإبادة ذاتها كوسيلة حياة، وذلك مثلاً ما رافق عصر الاكتشافات الجغرافية الكبرى وفتح أمريكا وفتح إفريقيا وآسيا، فـ”الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا” بحسب الشاعر البريطاني الشهير “كبلينغ”، فهذا الغرب لا يتعيّن وجوده على القمة إلا بنفي الآخر، معنوياً وماديا، و”إسرائيل”، وهي مخفره المتقدّم، هي من علّمته ذلك، لاهوتياً ودنيويا، حين حدّدت، بأسطورتها التوراتية، هويتها “بمدى قدرتها على كره ومعاداة الآخرين”، والهدف، بحسب فيلسوف آخر هو سبينوزا، “إيجاد تربة خصبة لنمو النزعات الأصولية والقتال ضد حقيقة الآخر وضد وجوده”، وتلك هي التربة الخصبة للإبادة الجماعية التي شهدنا آخر فصولها -ولن يكون الأخير قطعا- في غزة حيث “مستوى التدمير والقتل في شهر تفوّق على ما رأيناه في أوكرانيا على مدى عامين تقريبا، كما أكّد “راز سيغال” أستاذ دراسات الهولوكوست والإبادة بجامعة ستوكتون بنيوجرسي في الولايات المتحدة.

بهذا المعنى نفهم “الإبادة” كجزء رئيس ليس من “قيام إسرائيل” فقط، وقد كان كذلك، لكن وهذا الأهم من جوهرها وبنيتها المؤسسة وبالتالي من دورها الوظيفي الحقيقي في منطقتنا لصالح النظام العالمي الرأسمالي وأهدافه المعروفة، وبهذا المعنى أيضاً نقرأ فلسفة من يقف معها

بهذا المعنى نفهم “الإبادة” كجزء رئيس ليس من “قيام إسرائيل” فقط، وقد كان كذلك، لكن وهذا الأهم من جوهرها وبنيتها المؤسسة وبالتالي من دورها الوظيفي الحقيقي في منطقتنا لصالح النظام العالمي الرأسمالي وأهدافه المعروفة، وبهذا المعنى أيضاً نقرأ فلسفة من يقف معها، سواء بحجة التضامن أو حقّ الدفاع عن النفس أو يعتنق الحياد الإيجابي بحجة “العقلانية والاعتدال”، كشراكة كاملة في جريمة الإبادة المستمرة بغض النظر عن جنسيته وموقعه السياسي أو الجغرافي.

لذلك كلّه، تبدو “هدنة” اليوم، بصبغتها الإنسانية التي يروجون لها، ذات طبيعة مزدوجة فهي تحمل اعترافاً بالفشل من جهة أولى، ومحاولة، من جهة ثانية، للتبرؤ من تبعات جريمة الإبادة الجماعية التي ارتُكبت بأيد إسرائيلية وأمريكية أيضاً وتغطية سياسية وإعلامية و”فلسفية” من البعض، لكنّ الأخطر من كل ذلك أنّه وإن كانت “الهدنة” كإعلان فشل ستدفع حكماً إلى إخراج بعض الخاسرين من اللعبة، نتنياهو وبايدن مثلا، إلّا أنّها، وذلك درس تاريخي، لن تمنع مجازر إبادة قادمة، فذلك، ولو كره البعض -وتحديداً من يقرأ السياسة من وجهة نظر الناشط السياسي الجميلة والمحقّة لكن غير الواقعية- قدر الضعفاء في عالم لا يقوم على طردهم من الأرض -وتخديرهم بجنّة السماء- واستيطانها فقط، “وإنّما طردهم أيضاً من العمل والاقتصاد، وبالتالي إبادتهم ومحوهم من التاريخ، وتلك “فلسفة” الواقع الذي لا يكذب أبدا.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , ,