موسكو و”طوفان الأقصى”: فرص وتحديات

التصنيفات : |
نوفمبر 30, 2023 7:57 ص

*أحمد حسن

لم يعد هناك من مجال للتقليل من أهمية عملية طوفان الأقصى على مسار الصراع الدولي فوق قمّة العالم لأسباب عدة ترتبط بموقع الشرق الأوسط المركزي في الجيواستراتيجية العالمية ما جعل هذا “الطوفان” يصيب الغرب السياسي، و”إسرائيل” أداته الإقليمية، بجروح خطيرة لا يبدو أنّها ستندمل في القريب العاجل دون أن تترك عليه ندوباً يصعب التغاضي عن انعكاسات ضررها البالغ على صراعه الوجودي مع القوى العالمية والإقليمية الصاعدة وأهمها الصين وروسيا وإيران التي كان قد أربكها باختلاق صراعات جانبية لإشغالها أولا، وإشعالها ثانيا، تمهيداً لإعادتها لاحقاً إلى دورها الطرفي السابق الملحق بآلة النهب المنظّم للرأسمال العالمي الحاكم.

موقف موسكو

بهذا المعنى، فإنّ موسكو كانت، بالضرورة، من أكثر الدول التي تنفّست الصعداء في صبيحة “الطوفان”، لأنّه “تطوّر ثوري في العالم” في وجه واشنطن أولاً  التي هي “أكبر تهديد يواجه العالم وتطوّر البشرية” كما قالت وثيقة “المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية” التي أقرّتها موسكو مؤخرا، ولأنّه بالضرورة أيضا، سيساهم وفق القراءات الأولية -وهو ما حصل فعليا- في انصراف الغرب، وزعيمته واشنطن، بشكل مؤثر، ولو كان جزئيا، عن حلبة الصراع في أوكرانيا، وبالتالي التقليل من دعمه العسكري والإعلامي لـ”كييف” بما يتيح لموسكو الحصول على نتائج أفضل هناك.

لم يكن يعني على الإطلاق انخراط روسيا في تأجيج الصراع في الشرق الأوسط بصورة عملية، أي تقديم الدعم العسكري لحماس، كما فعل الغرب مع أوكرانيا، فهذا ما لم يفعله العرب أنفسهم أولا، وبسبب علاقتها الطيبة مع “إسرائيل” ثانياً

بيد أنّ ذلك، على أهميته البالغة، لم يكن يعني على الإطلاق انخراط روسيا في تأجيج الصراع في الشرق الأوسط بصورة عملية، أي تقديم الدعم العسكري لحماس، كما فعل الغرب مع أوكرانيا، فهذا ما لم يفعله العرب أنفسهم أولا، وبسبب علاقتها الطيبة مع “إسرائيل” ثانيا، رغم الفتور الذي ألقته عليها حرب أوكرانيا وموقف تل أبيب شبه المنحاز ضد روسيا منها، كما بسبب الوضع الروسي الاقتصادي والعسكري والاستراتيجي غير الجاهز لذلك ثالثا، وانسجاماً مع توجّه روسيا رابعا، للموازنة بين علاقتها الجيدة والمتصاعدة مع دول قريبة من “إسرائيل” مثل دول الخليج التي لا تشاطر “حماس” مواقفها، ودول عدوّة لها مثل إيران وحتى منظمات مقاومة مثل حزب الله.  

لهذا كلّه بقي رد الفعل الروسي محصورا، وإن بتصاعد ملحوظ وتدريجي، بين حديّ الحذر والترقب والدعوة لضبط النفس وطرح الوساطة بداية على أوضحته وزارة الخارجية حين قالت: “إنَّ موقف موسكو هو مع إيقاف الاقتتال، ووضع حلّ نهائي بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني، وعلى جميع الدول أن تتكاتف من أجل هذا الحل”، وبين إظهار انحياز إعلامي وسياسي ودبلوماسي وخاصة في مجلس الأمن الدولي نحو الفلسطينيين تُوّج بلقاء -لافت في حفاوته- استقبل فيه بوتين محمود عباس وبعض الشخصيات الحمساوية في (أستانا) عاصمة كازاخستان -وهو ما لاقته “حماس” بتحرير أسير روسي لديها تقديراً لموسكو- بالتوازي مع تصعيد كلامي لبوتين، وفريقه المقرّب، بدأ بتشبيهه الحصار الصهيوني المفروض على غزة بحصار (لينينغراد) -مع أهمية دلالة استحضار شبح هتلر معكوساً هنا- وتأكيده على إدانة عنف الاحتلال الإسرائيلي الـ”مروّع”، وصولاً إلى مطالبته بدولة فلسطينية مستقلة باعتبارها البوابة الأفضل لحل هذا الصراع.

إنّ روسيا، وبغض النظر عن كل ما يُقال في العلن، لا تفضّل نهاية سريعة للصراع بسبب من حاجتها لاستمرار الغرق الغربي في لجّته بما يبعدهم أكثر عن الموضوع الأوكراني ويمنحها الفرصة لإنهائه بالطريقة المناسبة لها

محاولة الاستفادة

بيد أنّ الروس لم ولن يدعوا الأمر يمرّ هكذا دون الاستفادة منه في التصويب على تحميل الولايات المتحدة الأمريكية وتحميلها المسؤولية المباشرة عما حدث وربطه بما يعني موسكو مباشرة، أي دور واشنطن في إشعال الحرب مع أوكرانيا كدليل بيّن على كونها راعية الفوضى في العالم، وتعميم قراءة سياسية لنتائج “الطوفان” بكونها تشكّل بداية خسارة كبيرة لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وبالتالي في العالم أجمع.

بهذا المعنى يمكن القول إنّ روسيا، وبغض النظر عن كل ما يُقال في العلن، لا تفضّل نهاية سريعة للصراع بسبب من حاجتها لاستمرار الغرق الغربي في لجّته بما يبعدهم أكثر عن الموضوع الأوكراني ويمنحها الفرصة لإنهائه بالطريقة المناسبة لها، وكان من اللافت في هذا المجال تصريح أحد الخبراء الروس الذي أوضح أنّ ذلك سيدفع كييف لاتّباع “نظاماً غذائياً وحمية ذخائر بالنظر إلى الكميات الكبيرة من الأسلحة والمساعدات الأخرى التي ستفقدها وتذهب إلى إسرائيل”.

كي نفهم أكثر مدى فعالية الموقف الروسي من “طوفان الأقصى”، بتبعاته الإسرائيلية والعربية والدولية، علينا العودة إلى الموقف الروسي من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على سوريا، وهي الحليف الأهم، والتي بلغت العشرات في عام واحد فقط، دون أن يتجاوز رد الفعل الروسي عليها مجال التنديد والاعتراض

خلاصة القول

ما حصل ويحصل في غزة هو لبنة جديدة في عملية بناء بيئة استراتيجية جديدة تتيح لروسيا، وبكين قبلها، دوراً ومجالاً أوسع للعمل ضد العدو التقليدي، واشنطن، واستنزافه، كما تتيح لها بحسب المفهوم الجديد للسياسة الخارجية “إمكانية اتّخاذ إجراءات مماثلة، أو غير مماثلة، ردّاً على الإجراءات غير الودّية ضدّ روسيا” التي اتُّخذت في الحالة الأوكرانية، وبالتالي تفعيل “مبدأ الارتباط الأمني استناداً للندّية”، في ظلّ ظروف التهديدات الخارجية، لكن التعقيدات العالمية وربما تراث الحذر التاريخي -والواقعي في ظل الحقائق الباردة لحدود القوة كما هي حاليا- يشدّها إلى الخلف حتى الآن، مكتفية بالإدانة الأخلاقية لواشنطن وبــ”زكزكة” الاحتلال سياسياً رداً على موقفه الملتبس في أوكرانيا، وربما كي نفهم أكثر مدى فعالية الموقف الروسي من “طوفان الأقصى”، بتبعاته الإسرائيلية والعربية والدولية، علينا العودة إلى الموقف الروسي من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على سوريا، وهي الحليف الأهم، والتي بلغت العشرات في عام واحد فقط، دون أن يتجاوز رد الفعل الروسي عليها مجال التنديد والاعتراض، وهو ما فهمته حركات المقاومة جيدا، وهذا تحديداً ما يجعل من روسيا اليوم مجرد مراقب خارجي وبعيد دون قدرة واضحة على التأثير بما يجري في الأروقة الاستخباراتية بين واشنطن وحلفائها تحديداً -قطر ومصر مثالا- من انفراد برسم معالم اليوم التالي لحرب غزة والتي لن تكون، في هذه الحالة، متناسبة مع تطلّعاتها بالطبع، وتلك حالة قصور سياسي “موسكوفية” تفصح عن ارتباك بيّن وتردّد واضح في استغلال فرصة سانحة -لم تتردّد واشنطن في استغلال مثيلتها في أوكرانيا- لا يلزم لقطاف ثمارها إلّا قرار حازم بانخراط جدّي وفاعل في قضية طالما كانت، لأسباب تاريخية وواقعية، أقدر على فهم أسبابها وتفهّم مظلوميتها من الغرب السياسي بأسره.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , ,