في صُنعة الثقافة المقاوِمة: نكونُ فننتصر

التصنيفات : |
ديسمبر 9, 2023 11:57 ص

يتفرّد موقع “صمود” بنشر مقدّمة كتاب “شرفات على الطوفان”، الذي أنجزه طلاب دار المجمّع الإبداعي، في معركة ثقافية مهمة ومساندة للعمل المقاوم، هدية لغزة النازفة وأهلها الصامدين.

*تهاني نصّار وعبد الرحمن جاسم

كي تكون هناك حضارة، لا بد أن تكون هناك ثقافة.

يستطيع المحتل -أيُ محتل- أن يمتلك قوةً عظمى تمكنه من احتلال حضاراتٍ تقل عنه قوة، لكنّه لا يستطيع البقاء هناك طويلا، سيسيطر من تعرّض للاحتلال إن كانت حضارته ذات عمقٍ وتأثيرٍ ثقافيٍ أكبر، هكذا يشير أحد أعظم خبراء المجتمعات وتطوّرها الأندلسي العربي إبن خلدون في كتابه الأشهر (المقدّمة). مرت على بلادنا احتلالاتٌ كثيرة، بعضها لم يعمّر طويلا، ونُسيَ كأنّه لم يكن، وكأنّه لم يحدث، والبعض الآخر القادم من حضاراتٍ أخرى، عاش وعاث فسادا، لكنّه عاد واندثر. اليوم، نقف أمام احتلالٍ أخير على هذا الكوكب الأزرق، وعلى أرضنا الجميلة: كيان الاحتلال الزائل والذي لا يستحقّ حتى أن يُلفظ إسمه. يشبه الصراع الدائرُ اليوم بين احتلالٍ بائدٍ وشعبٍ أصلي كل القصص العظيمة: ظلمٌ حالك، معاناةٌ قاسية، تضحياتٌ جسام، بطولاتٌ كبرى وفي النهاية إنتصارٌ عظيم. يعرف من يدرك صنعة الكتابة أنَّه كي تحصل انتصاراتٌ عظيمةٌ لا بد من كل هذا؛ لكنّنا اليوم لسنا أمام قصةٍ عادية فحسب، ولسنا أصلاً أمام قصّةٍ حتى، بل أمام واقعٍ متجلٍ في وحشٍ متغوّل قذر يشعر بأنّه “لا يُمس” وبأنّه مدعومٌ بشكلٍ كاملٍ لاجتثاث ما بقي من أصل، وعدلٍ وحكاياتٍ جميلة. هو يعتقد خاطئاً وواهماً أنّه يستطيع اجتثاث “فلسطين”. هو لا يعلم -كعادة الاحتلالات الدخيلة والطارئة والمندثرة- أنّ فلسطين أصل، والأصول لا تموت، ولا تنتهي، ولا تندثر.

لذلك، كان هذا الكتاب قبل أي شيء. أن يرويَ الأصل جزءاً من قصة ما يحدث. أن يرويَ أناسٌ حقيقيون، حكاياتهم وهم ينظرون صوب “الطوفان” الكبير الذي سيبتلع أكبر صور الظلم وأبشعها. تأتي الصور مباشرة، ثقيلة، متعبة، والأهم من ذلك حقيقيةً ومن القلب، ذلك أنّها وإن كانت “تداعياً حرا” وهي أقل أنواع الكتابة استخداماً واحتياجاً للتقنيات، فإنّ ما يعفيها من كثيرٍ من قياسٍ وأخذٍ وردٍ أنّها “دفقُ مشاعر” كبير يجعل القارئ أمام سؤال: ماذا قرأت هنا؟، لماذا أشعر هكذا في قلبي وعقلي ومعدتي حتى؟.

تعاني المقاومات في عصرنا الحديث من أنّها لا تؤرّخ -فعليا- لما تفعله، من هنا تخسر مكانتها في العصور الآتية بعدها، ينسى كثيرٌ من أناسٍ ما فعله أجدادهم، إذا ما لم يحكِ الأجداد حكاياتهم، مغامراتهم، كفاحهم، ونضالاتهم

في البدء كان أصحاب الأرض، ولذلك دُعيوا/ سُميوا/ كُنّوا بذلك: أصحابُ الأرض. بعدها جاء محتلون كثر، وهربوا، واندثروا، الآن أتى وقت احتلالٍ جديد كي يندثر ويرحل في الأرض ويتوه تيهاً نهائياً طويلا. ستتعقّد الأمور، وستتقلب، وسيحاول الوحش أن يظهر أنيابه ومخالبه الأكثر حدّة وقسوة وفظاظة: سنخسر كثيراً من أحبتنا، وأهلنا، وشيئاً من قلوبنا وإنسانيتنا حتى. كل هذا ليس إلا ثمن باهظٍ يدفعه أصحاب الأرض منذ بدء الخليقة وحتى اليوم لطرد محتلهم من أرضهم. لن يكون الفلسطينيون وحدهم من يفعل/ فعل ذلك: بل هي حكايةٌ مستمرة. في البدء كان أصحاب الحكاية، ومن يمتلك الحكاية، يمتلك التاريخ، ومن يمتلك التاريخ: يمتلك كل شيء. تعاني المقاومات في عصرنا الحديث من أنّها لا تؤرّخ -فعليا- لما تفعله، من هنا تخسر مكانتها في العصور الآتية بعدها، ينسى كثيرٌ من أناسٍ ما فعله أجدادهم، إذا ما لم يحكِ الأجداد حكاياتهم، مغامراتهم، كفاحهم، ونضالاتهم. من هنا، اهتمت الحضارات الحديثة، والشعوب الأصلية كثيراً برواية التاريخ، وتحديداً التاريخ الشفوي/ الشفهي منه، واختار صنّاع هذا الأمر “الحكاية” كي تكون هي “طريقة التعبير” بديلاً عن التاريخ الأكاديمي الجاف. من هنا، جاء هذا الكتاب. أن نرويَ قصصاً حقيقيةً لا من قلب “الطوفان”، بل من “شرفاته”. والتعبير/ التسمية أتى أصلاً من مجموعةٍ قصصية اسمها “شرفةٌ على الفاكهاني”؛ والتي كتبتها الفلسطينية ليانة بدر، والتي روت من خلالها قصصاً بمواجهة الاحتلال خلال اجتياح بيروت في العام 1982.  تميزت قصص المجموعة بكونها مباشرة، بتداعٍ حرٍ ممنهج، كان أقرب إلى الرؤية الصحافية منها إلى النص الأدبي البحت. استخراجنا للإسم لجماليته الخاصة، ورمزيته، ومراكمتنا عليه كان أمراً ضروريا، لكنّنا بنفس الوقت قررنا إضافة لمساتنا الخاصة لضروريتها وحتميتها: إنّ بناء جسر مع الماضي أمرٌ ضروري، واستمراريته أمرٌ حتمي، لكن ما بعد ذلك هو الأهم، يشرح مارتن سكورسيزي أحد أهم مخرجي السينما الأمريكيين الفكرة بوضوح.

أفسحنا -أخلاقياً وأدبياً ومنطقيا- المجال أمام قصص من كانوا بداخل “الطوفان” في غزّة من مقاومين وأصحاب قضية وتجربةٍ خاصة خلال هذه الأيام العصيبة أن يمتلكوا “فرادة” القصّ والحكاية

تمزج هذه المجموعة القصصية التي كتبها متدربوا ورشة الكتابة الإبداعية بين تجاربهم حول “الطوفان” لا كمشاهدين ومتفرجين فحسب، بل أيضاً كجزءٍ لا يتجزأ منه، ذلك أنّ لبنان، لم يكن بلداً خارج الصراع، لذلك ما كان طلاب ومتدربوا الورشة في قصصهم هذه خارج “الطوفان”، ذلك أنّ كل كتّابنا هم يقطنون في لبنان، وسواء أكانوا فلسطينين أو لبنانين فإنّهم ليسوا في قلب “الطوفان”، بل على “شرفاته”. بنفس الوقت، أفسحنا -أخلاقياً وأدبياً ومنطقيا- المجال أمام قصص من كانوا بداخل “الطوفان” في غزّة من مقاومين وأصحاب قضية وتجربةٍ خاصة خلال هذه الأيام العصيبة أن يمتلكوا “فرادة” القصّ والحكاية: فلم نقارب حكاياتهم، ولم نتقوّل عنهم، ولم نؤلف على لسانهم، ولم نحكِ شيئاً لم يقولوه لنا: ذلك أمرٌ للأيام القادمة حال انتصارهم ونجاتهم، وذلك أمرٌ أكيد الحدوث. فأن تكتب وتؤلف وتتقوّل على لسان شهيدٍ أو جريح، أو طفلٍ مصابٍ أو أمٍ ثكلى من خيالك، هو أمرٌ لا أخلاقي، لا أدبي، وفوق كل هذا كاذبٌ لا يستحق الإحترام. على الكاتب، أن يكون صادقاً، حقيقيا، ملامساً للحقيقة والواقع: من هنا، حينما نكتب عن تجارب الآخرين العصيبة والجلل، لا بد لنا إما من “مصدرٍ أصلي” يروي لنا فعلياً ما حصل معه وما مر به، ومن هنا نؤرخ ونسجّل (ومن هنا جاء تعبير القصة/ الرواية التسجيلية)، أو نراكم على تجربته ونجعله شريكاً في الصنعة، ويكتب هنا ونكون نحن مجرد “وسيلته” لرواية حكايته (وهنا يكون الكاتب أشبه بكاتبٍ شبحي ghost writer).

في المحصّلة، ينتصر أصحابُ الأرض، أصحابُ الحضارة، أصحابُ الثقافة الأصلية على كل ما هو طارئ، ذاهب، راحل كالكيان الذي لا يستحق لفظ إسمه، أو كتابته. سننتصر بحكاياتنا، سننتصر بشرفاتنا، سننتصر بكلماتنا، بقصائدنا، بجداتنا وهن يحضرن الخبز الطازج على تنّور منازلهم. سننتصر عند كل عقدة شعر، عند كل مفصلة وردٍ أو عشبٍ منسية في قُرانا. سننتصر لا بالبنادق والصواريخ -والتي نحتاجها كثيرا- فقط، بل سننتصر لأنّنا نستحق، ولأنّنا أصل، ولأنّنا أصحاب الأرض والحق.

لهذا، كان هذا الكتاب الثقافي، الخاص بأصحاب الأرض، دون غيرهم، الأصليون دون غيرهم، المغروسون فيها، وبقضاياها. هو قد لا يكون أهم كتابٍ كُتب أو سيُكتب حول التجربة، لكنّه مساهمة منا، كي نكون، فننتصر؛ وكي لا يكون هذا المحتل البغيض.

الشكر والإهداء الرئيس والأهم هو للعزيز أبو عبيدة، وقبله للقائد محمد الضيف، القائدين من كتائب الشهيد عز الدين القسّام، اللذين ألهما شعباً بأكمله للنصر، كل المحبة لهذين القائدين العظيمين. للأحباء العميد يحيى سريع والسيد عبدالملك الحوثي، وبالتأكيد لقائد المقاومة وكل هذه المرحلة سماحة السيد حسن نصر الله

في الختام، هي رسالة شكرٍ لكل من ساعد ولو بمجرّد كلمة في إنتاج هذا الكتاب، ولأنّه واجب علينا وليس منّة منا: نشكر الأستاذ المبدع والجميل عصام خازم على جهده الكبير في إنتاج غلاف هذا الكتاب وصنعته البصرية، تهاني -نون- نصّار مديرة الدار، قلبه النابض وشغلته المتقدة، والتي لولا ساعات عملها الكثيرة والتي جاوزت المئة ساعة من العمل المتواصل، لما أُنتج هذا العمل. نشكر سارة شاهين المصححة اللغوية الماهرة والتي أعطتنا من قلبها حتى يصل الكتاب للقارئ بالسرعة المطلوبة على الرغم من ضيق الوقت الشديد. نشكر هؤلاء أيضاً لسببٍ آخر شديد الأهمية: أنهم عملوا –جميعهم- وبشكٍل مجاني. ذلك أنا حينما أشرنا أنّنا سننتج هذا الكتاب “خدمة لفلسطين” وأنّ “ريعه” سيعود لفلسطين ومقاومتها وشعبها، كان إصرارهم أن يكونوا متطوعين مثلنا.

كل الشكر لهؤلاء الأحبّة، من القلب وللقلب. ولكن الشكر والإهداء الرئيس والأهم هو للعزيز أبو عبيدة، وقبله للقائد محمد الضيف، القائدين من كتائب الشهيد عز الدين القسّام، اللذين ألهما شعباً بأكمله للنصر، كل المحبة لهذين القائدين العظيمين. للأحباء العميد يحيى سريع والسيد عبدالملك الحوثي، وبالتأكيد لقائد المقاومة وكل هذه المرحلة سماحة السيد حسن نصر الله.

ومع كل هؤلاء وقبلهم وبعدهم، الشعب الفلسطيني الصامد أمام كل ما يحدث، ليقول لكل العالم: نحن هنا، وسنبقى هنا. نحن كل الأصل، سننتصر. ويكفي. نكون فلا يكون احتلال.

كي نكون، ولا يكونون.

*كاتبان فلسطينيان ومؤسسا دار المجمّع الإبداعي


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,