ساسة الصدفة: ماكرون وإغراق فرنسا أمام ساحل غزّة

التصنيفات : |
ديسمبر 13, 2023 7:19 ص

*أحمد حسن

“العالم المتشظّي” هو التعبير المستخدم حالياً لتوصيف الواقع الدولي الجديد في أوساط الخبراء الغربيين، وبالطبع فإنّ ما يشغل هؤلاء الخبراء هو غربهم وليس بقية العالم، وبالتالي، فإنّ المقصود بهذا التعبير هو التفكّك الواضح في “اللحمة الوثيقة” التي كانت تجمع بين دول الغرب في لحظة سيطرته على بقيّة العالم، وإذا كانت حرب أوكرانيا قد أعادت تجميع معظم ما تناثر من هذه “اللحمة” على خلفية “الروسوفوبيا” التاريخية إلا أنّ مجريات المعركة وانعكاساتها الاقتصادية، خاصة على أوروبا، وما تلاها وشابهها في حرب غزّة -لحمة أولى ثم تباين جزئي لاحق تحت ضغط صور الإبادة الجماعية والعجز عن تركيع الفلسطينيين- أعادت رفع الغطاء عن هذا “التشظي” ليكون “الفيتو المنفرد” لواشنطن في جلسة مجلس الأمن الأخيرة أوضح صورة دولية معبّرة عنه.

وكما كان لهذا “التشظي” أسباب موضوعية، ليس هذا مجال تفنيدها، إلا أنّ له أيضاً أسباباً ذاتية أبرزها تسنّم “ساسة الصدفة” وبهلوانات “الاستعراض” سدّة المقعد الأول في دول كبرى، وإذا كان “دونالد ترامب” أبرزهم فإنّ “إيمانويل ماكرون” لا يبدي أي تقصير عن غيره في هذا المجال.

أبرز خصائص هؤلاء “الساسة” تتمثّل بعدم إدراكهم للفرق بين الإمكانيات والأوهام، وذلك ما يجعل من كل حركة جديدة لهم خسارة إضافية شخصية وموضوعية ما يعرّضهم، بأشخاصهم وبلدانهم، للاستهانة من قِبل الحلفاء قبل الخصوم

ومن الثابت، في هذا السياق، أنّ أبرز خصائص هؤلاء “الساسة” تتمثّل بعدم إدراكهم للفرق بين الإمكانيات والأوهام، وذلك ما يجعل من كل حركة جديدة لهم خسارة إضافية شخصية وموضوعية ما يعرّضهم، بأشخاصهم وبلدانهم، للاستهانة من قِبل الحلفاء قبل الخصوم، وذلك مثلاً ما شهدناه في حالة فرنسا، وماكرونها، التي تمّ استبعادها بصفاقة منقطعة النظير من حلف “أوكوس” -ضم واشنطن، كانبيرا، لندن- لمواجهة الصين، لتتلاحق خطوات الفشل الفاضح في كل خطوة “ماكرونية”، سواء في محاولته الاستعراضية لإيجاد مقعد مستقل في الصراع الأمريكي – الصيني، أو في تنطّحه لممارسة دور “الأب الحنون” في لبنان، وموضوع رئاسته، وكان اجتماع “قصر الصنوبر” الشهير بين ماكرون وقيادات لبنانية وما تلاه من فشل -“وتفشيل” أمريكي سعودي له- مؤشّر بيّن على الصورة البائسة دولياً التي وصلت إليها فرنسا الماكرونية.

والحال، فإنّ ذلك لم يبدأ مع ماكرون، بل يمكن القول إنّ “جاك شيراك” هو من أسّس له حين تخلّى عن صورته الديغولية التي تقمّصها حتى لحظة اتضاح نتائج غزو العراق عام 2003 فلجأ، تحت ضغط الشركات الفرنسية وحقيقة أنّه كان موظفاً فعلياً عند “رفيق الحريري” تحديدا، إلى تقديم القرار (1559)، للسيّد الأمريكي كعربون على الخضوع، لكنّه بذلك -وبعيداً عن نتائج القرار على المنطقة- أخرج فرنسا بالمحصلة من القدرة على الفعل والتأثير في الشرق الأوسط الذي كان إلى جانب إفريقيا آخر ما بقي لها لتمارس عليه نفوذ القوة الكبرى الذي يضمحل اليوم، وبصورة مهينة، في إفريقيا أيضاً أمام نظر ماكرون ذاته.

بدت حرب غزة كفرصة ممتازة لاستعادة ألق فرنسا الديغولية في الشرق الأوسط وقضاياه، لكنّ الرجل، وكونه من ساسة الصدفة، أضاعها مرة أخرى ودون ثمن مناسب

بهذا المعنى، بدت حرب غزة كفرصة ممتازة لاستعادة ألق فرنسا الديغولية في الشرق الأوسط وقضاياه، لكنّ الرجل، وكونه من ساسة الصدفة، أضاعها مرة أخرى ودون ثمن مناسب، فرغم اختياره الجانب الخاطئ من التاريخ وانبطاحه الكامل في الحضن الإسرائيلي وتبنّيه لسردية “تل أبيب” حول الحرب محمّلاً “حماس”، من جهة أولى، المسؤولية عنها، ومهدّداً لبنان وحزب الله، من جهة ثانية، عبر موفديه المتلاحقين، ثم تجاوزه الإرث الفرنسي العلماني -قام عشية اليوم الوطني للعلمانية بإضاءة شمعة عيد الأنوار اليهودي (الحانوكا بالعبرية) وسط قصر الإليزيه، تخليداً لذكرى المستوطنين الذين لقوا حتفهم في عملية طوفان الأقصى، وفي تجاهل لقتل أكثر من 18 ألف فلسطيني أغلبيتهم من الأطفال- إلّا أنّ “الحلفاء” ذاتهم لم يأخذوه على محمل الجد فوجد نفسه خارج كلّ الحراك السياسي المحيط بالحرب وبدل أن يعيد حساباته تمثّل مخرجه للعودة إلى المسرح في الغوص إلى قعر أعمق خدمة لـ”إسرائيل” عبر استضافة لقاء لفريق الحرب الأمريكي تحت عنوان “مواجهة حماس”، يبدو نصّ الدعوة إليه، بكلّ بنوده، كورقة مقتطعة من اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي، وكانقلاب كامل على إرث السياسة الفرنسية الشرق أوسطي.

عام 2012، وصف المدير العام الأسبق لصندوق النقد الدولي، دومينيك ستروس-كان، أوروبا، وفرنسا قلبها، بأنّها عوامة على وشك الغرق

ولأنّ المكتوب يُقرأ من عنوانه، فإنّ المؤتمر ونتائجه ليسا إلّا تحصيل حاصل و”استعراض” مسرحي بائس لممثّل يردّد النص المكتوب في “البيت الأبيض” دون زيادة أو نقصان، متجاهلاً حقيقة افتقاده لأدوات والقوة والتأثير المناسبة، كما حقيقة أنّ بلاده لم تعد، منذ زمن طويل، قوة عظمى، ورئيسها ليس الرجل الأبيض الكبير، وهنا عليه أن يتمعّن جليّاً بحقيقة أنّ كل زيارة رئاسية له إلى بيروت مثلا، كان يكفي أن تليها زيارة موظفين أمريكيين، بمستوى “ديفيد هيل”، أو “ديفيد شنكر” -لاحظوا الفرق في التراتبية- كي تنفّذ أدواتهم المحلية برامج عمل مضادة لنسف مبادرته.

خلاصة القول، عام 2012، وصف المدير العام الأسبق لصندوق النقد الدولي، دومينيك ستروس-كان، أوروبا، وفرنسا قلبها، بأنّها عوامة على وشك الغرق.

عام 2021، وعلى خلفية استبعاد فرنسا المهين من حلف “أوكوس” لم يجد أحد المحلّلين الغربيين من كلام سوى القول إنّها، أي باريس، “تُعد، لسوء الحظ، أضراراً جانبية”!، لكنّها كانت أضراراً فادحة جداً بالنسبة لباريس، منها مادي حيث خسرت صفقة الغواصات مع أستراليا والمقدرة بقيمة نحو (50) مليار دولار أمريكي، ومنها معنوي فقد وجّه ذلك ضربة أكبر إلى صورة فرنسا الدولية في عالم تقوم بعض أسسه على الصور الرمزية.

عام 2023، يبدو أنّ فرنسا تغرق أمام ساحل غزة ليس فقط لأنّ “قباطنتها” ليسوا على مستوى المسؤولية بل وهذا هو الأهم لأنّ دروس التاريخ حول أسباب صعود وسقوط القوى العظمى لا تُقرأ جيدا.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , , , ,