عن المقاومين

التصنيفات : |
ديسمبر 19, 2023 7:42 ص

*أحمد الطناني – غزة:

منذ ما يقارب الشهرين ونصف حتى كتابة هذا المقال، يخوض مقاومو قطاع غزة قتالاً شرساً ضد حرب يشنّها الاحتلال الصهيوني بدعم غربي مُطلق تقوده الولايات المتحدة. حرب مستعرة يرى فيها الاحتلال حرباً وجودية، فما جرى في السابع من أكتوبر لم يكن مجرد إنجاز عملياتي للمقاومة، بل ضربة استراتيجية مسّت الأسس التي رسّخها هذا الكيان على مدار سنوات اغتصابه للأرض الفلسطينية.

شاهد العالم أجمع، وما زال يشاهد، عظمة فعل المقاومين في قطاع غزة، وضرباتهم النوعية لجيش من الجيوش الأعلى تدريباً وتسليحاً في العالم، والأقوى في المنطقة، جيش داسته أقدام مقاتلي قطاع غزة، ليس مرة، بل مرات ومرات، حتى حوّل هؤلاء المقاتلون هذا المشهد العظيم إلى مشهد معتاد بدّد هيبة الجيش الذي يُشكّل “الردع” جزءاً رئيسياً من استراتيجيته الدفاعية.

نرقب فعل هؤلاء الأبطال بشغف، تقفز قلوبنا لمشاهد المقاطع المُصورة لجزء مما تمكنوا من توثيقه لمعاركهم وضرباتهم للاحتلال، أو ما يُسمح بنشره منها، نرى فيها مقاتلين أشداء، مُدرَّبين، محترفين، لا يعرفون للتردد سبيل، يحفظون ميدانهم جيدا، يطوّعون الجغرافيا، وكل تفاصيل المكان، وحتى الدمار والخراب يحوّلونه لأدوات للمواجهة والمقاومة، جاعلين من كل شبر من أراضي القطاع كميناً من نار.

جيش من المتطوعين

لربما لا يعرف الكثير تفاصيل عن مقاومي قطاع غزة، ويظن البعض أنّهم مجنّدون مثل الجيوش النظامية، أو متفرغون لعملهم المقاوم فقط، أو أنّ وظيفتهم أو حياتهم هي منحصرة بكونهم جزءاً من الكتائب أو السرايا أو الألوية المقاتلة في قطاع غزة، ولكنّ الواقع مغاير تماما، فالغالبية العظمى من مقاتلي الأجنحة العسكرية في قطاع غزة والذي يقارب تعدادهم الـخمسين ألف مقاوم، هم من المتطوعين.

يعيش المقاوم في قطاع غزة حياتين بكل معنى الكلمة، فهو مطلوب منه أن ينجح في حياته العادية على الصعيد المهني والاجتماعي، ومطلوب منه أن يؤدي واجبه الكفاحي ضمن تشكيله المقاتل

متطوعون لهم حياتهم الطبيعية، فمنهم الطبيب والمهندس والأكاديمي والعامل والفلاح والحرفي والتاجر، منهم الفنان والشاعر والمصور والمصمم وكل ما يخطر على البال من المهن، وجلّهم يصل ليله بنهاره، ينهي عمله اليومي أو ساعات دراسته الجامعية، وينطلق مسابقاً الزمن لواجبه الكفاحي ضمن تكليفاته اليومية أو الأسبوعية في تخصصه المقاوم.

يعيش المقاوم في قطاع غزة حياتين بكل معنى الكلمة، فهو مطلوب منه أن ينجح في حياته العادية على الصعيد المهني والاجتماعي، ومطلوب منه أن يؤدي واجبه الكفاحي ضمن تشكيله المقاتل، وخلال كل هذا مطلوب منه أيضاً أن يحافظ على سرية مهمته وحركته وتدريبه، ضمن مهمة شاقة تلامس كل تفاصيل حياته، فيضطر المقاوم حفاظاً على أمنه وأمن مهمته ومن حوله، إلى التخلي عن الكثير من مظاهر الحياة الطبيعية خصوصاً أدوات التكنولوجيا واتخاذ العديد من المحاذير منعاً للوقوع في ثغرات أمنية تمنح الاحتلال معلومات مجانية.

لم تصل المقاومة إلى ما وصلت إليه من تشكيلات ومتانة وبنى تحتية وتصنيع محلي عالي الكفاءة والقدرة، بدون جهود بشرية عظيمة، قضت سنوات من العمل تحت الأرض، لحفر الأنفاق، وتجهيز المكامن، ودراسة العدو ووضع الخطط والتدريب الدائم

لم تصل المقاومة إلى ما وصلت إليه من تشكيلات ومتانة وبنى تحتية وتصنيع محلي عالي الكفاءة والقدرة، بدون جهود بشرية عظيمة، قضت سنوات من العمل تحت الأرض، لحفر الأنفاق، وتجهيز المكامن، ودراسة العدو ووضع الخطط والتدريب الدائم، ناهيك عن الجهود الجبارة للعقول الهندسية في التصنيع والتطوير، كل هذا كان نتاج سنوات من حيوات الآلاف من أبناء قطاع غزة، الذين وصلوا نهارهم بليلهم ليكونوا على قدر طموحات شعبهم وعظمة وعدالة قضيتهم.

مجهولون وهم أحياء، معروفون وهم شهداء

الحفاظ على مبدأ السرية والالتزام بمعايير الأمن المنصوص عليها ضمن أدبيات الأجنحة العسكرية هي جزء أساسي من حياة المقاوم، وبالتالي، فإنّ عمله المقاوم يبقى طي الكتمان والسرية، ولا يعلم أحد عنه شيئاً (سوى جهات الاختصاص والمتابعة) فيعيش المقاوم سنوات طويلة من عمره، يؤدي واجبه الكفاحي، ويقدّم إسهامه الدائم في كل المعارك والجولات، بما تتضمّنه من بطولات قد تكون صنعت لحظات عز وكرامة في تاريخ الشعب الفلسطيني، ولا يعلم عنه أحد، فهو الملثّم الذي يلبس العصبة التي تبيّن انتماءه، نرى فعله ولا نعلم شخصه.

تحرص المقاومة على أن تعطي لكل شهيد حقّه (بما تسمح به الضرورات الأمنية) حين يرتقي شهيدا، فتسلط الضوء على أبرز بصماته الكفاحية

يتكشف جزء من فعل هؤلاء الأبطال حين تُكلل مسيرتهم بالصعود إلى علياء المجد والارتقاء شهداء، حينما تظهر صور الوجوه والأسماء لهؤلاء الأبطال، ونعرف من هم وأي حياة كانوا يعيشون، ما الذي تركوه خلفهم في سبيل القضية الأكبر والأسمى، ما الذي ضحوا به من أجل أن يعيش شعبهم بكرامة.

تحرص المقاومة على أن تعطي لكل شهيد حقّه (بما تسمح به الضرورات الأمنية) حين يرتقي شهيدا، فتسلط الضوء على أبرز بصماته الكفاحية، فنرى عظيم شأن أبطال كان فعلهم محطة فخر لشعبنا، نفّذوا مهامهم بصمت، وعاشوا بصمت، ورحلوا حاملين العهد، دون أن تسمح لهم الظروف بأن يحصلوا على المجد وهم أحياء، فيمجّدهم شعبهم ويخلّدهم فعلهم وهم شهداء.

عن المقاوم في الحرب

منذ شنَ الاحتلال عدوانه على قطاع غزة، لم يتوانَ عن ممارسة كل أشكال الإجرام بحقّ الآمنين من السكان العُزل في بيوتهم، أو حتى أماكن لجوئهم، فلم يتوانَ عن مسح مربعات كاملة على رؤوس ساكنيها، ولا عن محو عائلات بأكملها من السجل المدني.

في هذا الوقت ومنذ اللحظة الأولى لبدء المعارك، انتظم كل مقاوم في عقدته القتالية، أو مهمته الكفاحية، ضمن دوره ومكانه وتخصصه، تاركاً خلفه عائلته وأحباءه وأصدقاءه، ومنطلقاً صوب مهمته، يرقب هدفه، ويصل الليل بالنهار دفاعاً عن شعبه وأرضه.

يتمسك المقاوم بالبقاء في عقدته القتالية، التي قد يكمن فيها لأسابيع، لينجز مهمته، وهو يعلم تماماً أنّ كل لحظة قد تحمل معها صاروخاً غادراً من طائرات الاحتلال

المعادلة هذه المرة أصعب من المعادلات، فلسنا أمام جولة قتالية لأيام، ولا مهمة لساعات، بل هي حرب ضروس تجاوز عمرها الشهرين ونصف ولم تنته، أيام طوال صبّ فيها الاحتلال كل صنوف أسلحته الفتاكة على رؤوس قطاع غزة وساكنيه، واستهدف فيها كل مكمن محتمل للمقاومة، كما كل بقعة في القطاع المحاصر.

يتمسك المقاوم بالبقاء في عقدته القتالية، التي قد يكمن فيها لأسابيع، لينجز مهمته، وهو يعلم تماماً أنّ كل لحظة قد تحمل معها صاروخاً غادراً من طائرات الاحتلال، الذي يستخدم كل وسائل التكنولوجيا والسايبر والذكاء الاصطناعي من أجل التحديث اللحظي لبنك أهدافه وضرب مقدرات ومقومات المقاومة، ويعلم أيضاً أنّ بيته قد تدمر أو سيتدمر، وأنّ عائلته إما استُشهدت أو هي على قائمة الاستهداف، وبغالب الأحوال لا يستطيع حتى أن يعرف مصيرهم، ورغم كل ذلك يبقى ثابتاً ويعرف هدفه جيدا، ضرب الاحتلال في مقتل.

انتقام مجنون من العائلات والحاضنة الشعبية

عمد الاحتلال إلى استهداف كل بيوت المقاومين، لا يستهدف الصفوف القيادية فقط، بل كل مقاوم رصدته أجهزه مخابراته، استهداف لا يهدف لاغتيال المقاومين، فغالبيتهم في الميادين أو غادروا بيوتهم للضرورات الأمنية.

يضرب الاحتلال المنازل ليقتل كل فرد من عائلات المقاومين، لينتقم من الأبرياء والآمنين ويوغل في دمائهم انتقاماً من مقاوم لم يستطع الاحتلال أن يواجهه في ميدان القتال، فلجأ إلى قتل أطفاله وإخوته وزوجاتهم وآبائهم وأمهاتهم، انتقام مجنون بلا أي وازع أو رادع.

 في بعض الحالات استهدف الاحتلال عائلات المقاومين، فاستُشهد عدد منهم، ونجا الباقون، وبحثوا عن مأوى جديد يرممون فيه جراحهم ويستجمعون من تبقّى من عائلاتهم، فيكرر الاحتلال استهدافهم هم ومن آواهم، سعياً لاستكمال انتقامهم بالقضاء على من له قرابة للمقاومين، لتحويل هذا المقاوم إلى نقمة على عائلته ومجتمعه وجالب للدمار والقتل وأهله.

يبحث الاحتلال عن تأليب المجتمع على مقاومته، فينتقم من الحاضنة الشعبية، ويبحث عن صور انتصار عبر قهر الأبطال في أطفالهم ونسائهم وأمهاتهم، بعد أن فشل بقهرهم في ميادين المواجهة والقتال

يبحث الاحتلال عن تأليب المجتمع على مقاومته، فينتقم من الحاضنة الشعبية، ويبحث عن صور انتصار عبر قهر الأبطال في أطفالهم ونسائهم وأمهاتهم، بعد أن فشل بقهرهم في ميادين المواجهة والقتال.

يدفع الاحتلال المقاومين لارتكاب أخطاء أمنية، ويستهدف العائلات ليدفع المقاوم للتحرك العلني سعياً للاطمئنان على من تبقّى، أو حتى توديع شهدائهم ودفنهم كما يليق، لتتمكن منظومة الاستطلاع التي تدعمها أجهزة الاستخبارات العالمية والطائرات الأمريكية والبريطانية الأحدث في العالم، من التقاط حركة المقاوم في هذه اللحظة وتتمكن من اغتياله.

يعيش مقاومو قطاع غزة تحت وطأة ظروف لا تحتملها الجبال، استهداف بكل لحظة، انتقام من العائلات، تشريد الأهالي، تجويع الحاضنة الشعبية، وقتال لا يتوقف على كل المحاور، وبالرغم من كل هذا، لا يتراجعون ولا يستسلمون، بل يضربون أعداءهم بلا هوادة، بأقدام حافية، وسلاح مُصنع محليا، وعزيمة لا تلين.

يستحق هؤلاء المقاومون أن يُنظَّم مشروع خاص لتوثيق حياتهم، بطولاتهم، تضحياتهم، هم ليسوا أرقاماً ولا يجب أن يكونوا كذلك، فلكل شهيد حكاية، ولكل شهيد قصة، ولكل شهيد حياة، ولكل شهيد بصمات وإبداعات، وحقّهم أن نخلّدهم، وأن نعيَ أنّ لجموع الملثمين الرابضين في عقدهم القتالية، حياة وعائلات، وحقّهم أن نُعظّم من قدرهم أيّما تعظيم فهم  أمناء هذا العصر وشهود وشهداء على ملحمة تُعبّد الطريق للنصر والتحرير.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , ,