“الطوفان” والعودة إلى البدايات

التصنيفات : |
يناير 19, 2024 7:46 ص

*وفيق هوّاري – صمود:

يكتسب حدث “طوفان الأقصى” أهمية مميزة، ليس لأنّه استطاع إلحاق خسائر كبيرة في أوساط المستعمرين وقوات الكيان الصهيوني المصطنع، بل لأنّه أعاد التاريخ إلى الوراء، ووجّه ضربة قاصمة لكل ما تدّعيه الرواية الصهيونية.

منذ أواخر القرن التاسع عشر، وزعماء الصهيونية يحيكون رواية ممنهجة من نسج خيالهم وبإشراف أصحاب المصالح من الغرب الإستعماري، يخلطون بين المتخيّل وبين الرواية الأيديولوجية، يتسلحون بخطاب كاذب عن ديمقراطية في وسط استبدادي وبين حقوق الإنسان وسط انتهاكات واسعة لها، يدّعون أنّهم يسعون إلى مزيد من الحداثة والليبرالية في وجه مجموعات بربرية متخلفة ومتوحشة.

وعلى الرغم من هذه الروايات غير الحقيقية فإنّ هذه القاعدة المتقدّمة للاستعمار الحديث لاقت تأييداً واسعاً من بلاد كثيرة، ساعدها بذلك عجز المحيط عن بناء دول وطنية قادرة على بناء مؤسسات كاملة وتدافع عن شعوبها.

قبل “وعد بلفور” كان المخطط الصهيوني يقوم على ضرورة ارتكاب المجازر البشرية بحقّ الفلسطينيين وتهجير العدد الأكبر منهم إلى الكيانات المحيطة، ودعوة اليهود للعودة إلى “أرض الميعاد” ولو على جثث الفلسطينيين بعد قلعهم من أراضيهم.

في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، أعلنت الأمم المتحدة تقسيم الأراضي الفلسطينية بين أصحابها التاريخيين وبين المستعمرين الجدد الذين قدِموا لبناء قاعدة إستعمارية تحمي مصالح الغرب، وتكون كياناً صهيونياً يعتمد على استبداد الآخر.

لم يكتفِ الكيان الصهيوني بتهجير الفلسطينيين، بل منعهم من محاولات العودة إلى وطنهم حتى لو ظنّ بعضهم أنّه يمكن الوصول إلى تسوية ما مع هذا الاحتلال

وعندما استولوا على ما استطاعوا الاستيلاء عليه، وبعد مجازر عديدة، أعلنوا في 14 أيار /مايو 1948 كيانهم المصطنع، وشرّعوا وسنّوا القوانين التي تتيح لهم الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، وتمنع عودة من تبقّى منهم إلى أرضه، وتجعل ممن بقي من أهل البلد مواطناً من الدرجة الثانية ما وضعه في موقع المدفوع إلى الهجرة ليحل محله أشخاص لا علاقة لهم بالأرض وبالشعب سواهما من خطاب أيديدلوجي فارغ، ودور أمني وعسكري لخدمة مصالح  الغرب.

كيان يستمر وجوده باستمرار قتله وإبادته للشعب الفلسطيني، الذي وصفه زعماء هذا الاحتلال بأنّه “حيوانات تستحقّ القتل”، ووافقهم على ذلك زعماء دول تدّعي الديمقراطية وحقوق الإنسان وإدارة النزاعات بالطرق السلمية.

لم يكتفِ الكيان الصهيوني بتهجير الفلسطينيين، بل منعهم من محاولات العودة إلى وطنهم حتى لو ظنّ بعضهم أنّه يمكن الوصول إلى تسوية ما مع هذا الاحتلال.

لقد وعى الفلسطيني على فكرة أنّ الحياة خارج وطنه أصعب من البقاء داخله على الرغم من العنصرية والاستبداد وجرائم الاحتلال بحقّه

يقول الإسرائيليون إنّ فلسطين هي أرض بلا شعب، وإنّ ما كان موجوداً بعد سقوط السلطنة العثمانية هو وجود متحرك عربي على أرض لا يملكها أحد سوى ما يضمره المشروع المتخيّل، وإنّ المجازر التي حصلت والتدمير الذي لحق بمئات البلدات والقرى هما بسبب الهجمات التي قامت بها الجيوش العربية وساندتها مجموعات الرُّحّل التي كانت تمر بتلك الأراضي منعاً لبناء “دولة” اليهود بعد انتهاء الإنتداب البريطاني الذي هو الأب الشرعي لهذا الكيان الصهيوني.

ويحاول العدو الصهيوني التنكر لدوره بعملية التطهير العرقي للفلسطينيين وأنّ من رحل يستطيع أن يتأقلم في المكان الجديد.

ولكن، من يستطيع القول إنّ أكثر من نصف الشعب الفلسطيني يمكنه العيش في مجتمعات مبعثرة ضمن أماكن مختلفة من بلدان اللجوء، وفي بلدان عربية تمارس تمييزاً واضحاً ضد الفلسطينيين كلاجئين لا حل أمامهم سوى استخدام جميع الوسائل وانتهاج كافة السبل للعودة إلى الوطن.

لقد وعى الفلسطيني على فكرة أنّ الحياة خارج وطنه أصعب من البقاء داخله على الرغم من العنصرية والاستبداد وجرائم الاحتلال بحقّه.

لكنّ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أعاد عقارب الساعة إلى أكثر من قرن من الزمان، وأعاد العصابات الصهيونية إلى نقطة الإنطلاق

الأصعب هو أيضاً ما ارتُكب بحقّه في بلدان اللجوء والتواطؤ الذي حصل ضده من قِبل بعض الأنظمة العربية تنسيقاً أو قبولاً بوجود الكيان الصهيوني. كما أنّ البعض رضي بالتطبيع مع الاحتلال وهذا بحد ذاته إنكاراً لحقّ الفلسطينيين بالعودة إلى أرضهم وممتلكاتهم، ورضياً بالرواية الإسرائيلية عن حقّ الصهاينة بالحياة على “أرض بلا شعب”.

لكنّ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أعاد عقارب الساعة إلى أكثر من قرن من الزمان، وأعاد العصابات الصهيونية إلى نقطة الإنطلاق، إلى حرب إبادة جديدة تفوق بعنفها حرب 1948، ولم يعد الدعم الغربي -دفاعاً عن مصالحه في المنطقة- كافياً لتبرير ما يحصل، فالشعوب في كل البلدان تنبّهت إلى هذه الكذبة الكبيرة المتداولة منذ أكثر من قرن، فامتلأت شوارع وساحات العالم بالمتظاهرين ضد استمرار حرب الإبادة التي يقوم بها الكيان الصهيوني، والذي يحاول، حاليا، استخدام سياسة الكذب والرياء في محكمة العدل الدولية في محاولة لكتابة رواية جديدة لواقع المنطقة، لكنّه يواجه صعوبة كبيرة إذ لم يعد الإعلام ملك السلطات، بل إنّ مساحات واسعة منه صارت ملك الحقيقة، وسيكتب “الطوفان” الرواية الحقيقية لهذه الأرض ولأهلها الأصليين.


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,