نتنياهو- بايدن بين استعصاء النصر واستحالة الهزيمة

التصنيفات : |
يناير 24, 2024 8:00 ص

*أحمد حسن

يوماً إثر آخر من أيام الحرب اليومية الدائرة في المنطقة وعليها، تتعرض بدهية “ثيوسيديس”، المؤرخ والفيلسوف الإغريقي الشهير، التي تقول: “القوي يفعل كما يريد والضعيف يعاني كما يجب” إلى امتحان جدّي لإثبات صحتها أمام واقع يزعزع من أسسها حيث تقوم قوى مقاومة تكالب عليها العدو والصديق! برفض البقاء في أسر “المعاناة كما يجب” وتمنع، بالتالي، “القوي” من فعل ما يريد، بل إنّها وللمرة الأولى تضعه أمام استعصاءين متضادين: أولهما، استحالة القبول بخسارة الحرب أمامها، وثانيهما، استحالة إنجاز النصر الحاسم والكامل عليها.

وإذا كان للبعض أن يحاجج محقّاً بأنّ هذين الاستعصاءين يواجهان الجميع فعلياً بصورة أو بأخرى، إلا أنّ اختلاف تعريف النصر والهزيمة من طرف لآخر، يجعلانهما يواجهان ثنائي نتنياهو- بايدن أكثر من غيرهما، وهما تحديداً ما يفسّر السعي المحموم للأول كي يوجّه رياح الحرب إلى خارج غزة لدرجة أصبحت معها المنطقة أشبه بـ”برميل بارود” على وشك الانفجار، كما وصفها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي حمّل “تل أبيب” مسؤوليتها، ولو ضمنا، حين قال: “إنّ العمليات العسكرية التي تنفّذها إسرائيل تؤدي إلى دمار واسع النطاق، وإلى قتل البشر على نطاق غير مسبوق”.

من وجهة نظر نتنياهو يحتاج الأمر إلى حرب إقليمية كبرى، يجرّ إليها واشنطن بالضرورة، ويبقى، بنتيجتها، زعيماً حيّاً سياسيا، في ما يرى بايدن أنّ تخفيف الخسارة يأتي من باب تسوية ما تتيح له العودة إلى ترتيب المنطقة على صورة ما قبل السابع من أكتوبر

ولأنّ تعريف النصر والهزيمة يختلف، كما أسلفنا وكما نعرف جميعا، بين طرف وآخر، وتحكمه “قراءات” وتفاسير عدة، فيمكن لنا القول إنّ المقاومة الفلسطينية انتصرت، نسبيا، منذ السابع من أكتوبر 2023، وإنّ “إسرائيل” وأمريكا خسرتا الحرب، ونسبياً أيضا، منذ تلك اللحظة، وبالتالي فإنّ ما يحدث اليوم، على جميع المستويات العسكرية والسياسية، هو محاولة من المقاومة لتثبيت النصر وتثميره وترسيم المعادلات الجديدة التي يُفترض أن تنشأ عنه، كما أنّه سعي من الطرف الأمريكي- الإسرائيلي لقلب ذلك الواقع كلّه، لكنّ كيفية تحقيق ذلك هو ما يفرّق بين هذين الأخيرين، وهي تفرقة لا تنبع من اختلاف شخصي أو ذاتي بقدر ما تنبع من ظروف موضوعية تحيط بكل منهما على حدة، وتصنع بالتالي رؤيته وتوجّهه، فمن وجهة نظر نتنياهو يحتاج الأمر إلى حرب إقليمية كبرى، يجرّ إليها واشنطن بالضرورة، ويبقى، بنتيجتها، زعيماً حيّاً سياسيا، في ما يرى بايدن أنّ تخفيف الخسارة يأتي من باب تسوية ما تتيح له العودة إلى ترتيب المنطقة على صورة ما قبل السابع من أكتوبر للتفرغ لمشاكله وتحدياته العالمية الأخرى، وهذا هدف الرسالة التي أرسلها، بحسب ما كشفته صحيفة “يديعوت أحرونوت”، إلى نتنياهو “يدعوه فيها إلى التعقّل والسير بخطة تعويم للسلطة الفلسطينية والوعد بإقامة دولة فلسطينية يجري التفاوض على حدودها وماهيتها وحجم صلاحياتها، بما يسمح بتصنيع مخرج من حرب غزة عنوانه تسليمها للسلطة الفلسطينية في قلب صفقة شاملة تتضمن الموافقة على حل الدولتين، وإلا فإنّ نتنياهو يتحمل مسؤولية أكبر فشل استراتيجي في تاريخ إسرائيل”.

نفهم إصرار نتنياهو على تجاوز الخطوط الحمراء مع لبنان وسوريا وإيران -وتحديداً مع لبنان حيث الوضع خطير جدا- أملاً بفتح جبهة كبرى مع لبنان لتحقيق إنجاز عسكري وأمني وهمي يصرفه في الداخل الإسرائيلي ويواجه به أيضاً تزايد التشققات في حكومته ومجلس حربه المصغّر

هنا، أي أمام هذين الاستعصاءين، نفهم إصرار نتنياهو على تجاوز الخطوط الحمراء مع لبنان وسوريا وإيران -وتحديداً مع لبنان حيث الوضع خطير جدا- أملاً بفتح جبهة كبرى مع إحداها لتحقيق إنجاز عسكري وأمني وهمي يصرفه في الداخل الإسرائيلي -ويواجه به أيضاً تزايد التشققات في حكومته ومجلس حربه المصغّر ذاته- وإلا ستكون نهايته السياسية هي ثمن الفشل لمنع التداعيات الأشد قسوة على المكانة الأمريكية ومستقبل الكيان، كما نفهم في الآن ذاته، أمرين اثنين: أولهما، حرص واشنطن على تصعيد مضبوط مع الخصوم، اليمن مثالا، وثانيهما، ولو جاء من مقلب آخر قد يبدو بعيداً للبعض، “قول” مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان ومن أمام المنتدى العالمي في دافوس، أي نادي أثرياء النهب المستدام، إنّ “العالم يقف على أعتاب حقبة جديدة من العلاقات” ثم مسارعته إلى طمأنة “النادي” بأنّ الولايات المتحدة، وعلى العكس من حقبة الثلاثينيات، “لن تدخل في عزلة ذاتية وستضمن عدم تكرار التاريخ نفسه”، فذلك، أي إصرار نتنياهو وحرص واشنطن وطمأنة “سوليفان”، تعبير بالغ الدلالة عن هذين الاستعصاءين وعن اختلاف فهمهما وكيفية مواجهتهما بين الطرفين.

خلاصة القول، في ما بدأ نتنياهو يهدّد المنطقة، ومعها العالم!، بالاشتعال الكامل عسكريا، كان “سوليفان”، وإدارته، يحاولان طمأنة الأتباع وتهدئة الخصوم مع محاولة ردعهم في الآن ذاته، لكنّ الفرق واضح بينهما، فإذا كان تهديد نتنياهو بحثاً عن نصر مستحيل، فإنّ طمأنة “سوليفان” ليست أكثر من تعبير عن استحالة قبول الهزيمة، لكنّ من يستطيع أن يضمن النصر للأول وهو يلاقي الفشل حتى في منطقة جغرافية ضيّقة طالما كانت أكبر سجن مفتوح في العالم وكان هو كبير سجّانيها، ومن يستطيع أن يضمن للثاني عدم تكرار التاريخ نفسه؟، ألم تكن لندن يوماً تحكم إمبراطورية لم تظن، يوماً ما، أنّ الشمس ستغيب عنها؟.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , ,