عن التاريخ و”العدل الدولية” وحرب الفرنجة الجدد وهدنهم

التصنيفات : |
يناير 31, 2024 6:00 ص

*أحمد حسن

في اللحظة التي كانت تجتمع فيها وفود أمنية مكوّنة من مدراء المخابرات: الأمريكي والإسرائيلي والمصري والقطري، لمناقشة بنود صفقة الهدنة وتبادل الأسرى بين الجلاد والضحية، وافقت محكمة العدل الدولية على اعتبار أنّ “أركان جريمة الإبادة الجماعية متوافرة في الوثائق والإثباتات التي قدّمتها جنوب إفريقيا وأنّ المحكمة ستبدأ المسار القانوني للنظر في الدعوى، ورفضت الطلبات الإسرائيلية بردّ الدعوى”.

وللحق، فإنّ هذين أمرين جيدان نظريا، فالهدنة الجديدة، إن أُقرّت، هي اعتراف إسرائيلي- أمريكي جديد بالفشل، وقرار “العدل الدولية” يشكّل انتصاراً قضائياً دولياً أخلاقياً ممتازاً لفلسطين وقضيتها، لكنّهما في الآن ذاته انتصاران منقوصان ليس بحكم الواقع الحالي فقط بل وفق دروس التاريخ ذاته التي تُفصح عن طبيعة العلاقة بين المستعمِر والمستعَمر من حيث هي علاقة إخضاع مهينة لا يغيّرها “عدل” ولا هدنة لأنّ “الحقّ ما سنّ القوي بسيفه” فقط لا غير.

ولنقرأ في كتب التاريخ: في 15 تموز/ يوليو 1099 وصف شاهد عيان، لمؤرّخ قروسطي، ما يحصل بالقدس قائلا: “لا زال الإفرنج يجوسون المدينة شاهرين السيوف، لا يشفقون على أحد، حتى على الذين يتوسّلون الرحمة”.

ذلك حال ما يحدث في “غزة” موقع معركة اليوم مع الفرنجة الجدد -في ما فلسطين كلها، ومن خلالها العالم بأسره، هي الساحة الرئيسية والمقصودة- وكما في السابق الغطاء ديني مع بعض الرتوش الحديث من نشر الديمقراطية والحرية وما إلى ذلك، والجوهر اقتصادي والإبادة جماعية والهدنة ليست إلّا وعداً كاذباً لاستكمالها

قبل ذلك بأشهر قليلة وفي نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 1098، تجمعت قوات الإفرنج بقيادة بوهيموند وريموند دي تولوز أمام معرّة النعمان، المدينة الواقعة في سوريا الحالية، وبعد نحو أسبوعين من الصمود البطولي لسكان المدينة وتحديداً يوم 12 كانون الأول/ ديسمبر 1098، أبلغ قادة المدينة بوهيموند أنّهم مستعدون للتفاوض، فوعدهم بالحفاظ على أرواحهم في حالة الاستسلام الفوري والكامل، لكنّه نكث بوعده، وما كاد سكان “المعرّة” يلقون أسلحتهم حتى بدأت مجزرة رهيبة، قضى فيها الإفرنج على كل من كان حياً في المدينة.

وبالمقارنة، نجد أنّ الغطاء لتلك الحروب التي سمّاها الغرب صليبيّة وسمّاها العرب، محقيّن، حروب الفرنجة، كان دينيا، لكن الجوهر كان اقتصاديا، فأوروبا كانت تبحث حينها، ولا تزال، عن طعام وأسواق جديدة للتوسع، وذلك حال ما يحدث في “غزة” موقع معركة اليوم مع الفرنجة الجدد -في ما فلسطين كلها، ومن خلالها العالم بأسره، هي الساحة الرئيسية والمقصودة- وكما في السابق الغطاء ديني مع بعض الرتوش الحديث من نشر الديمقراطية والحرية وما إلى ذلك، والجوهر اقتصادي والإبادة جماعية والهدنة ليست إلّا وعداً كاذباً لاستكمالها.

بهذا المعنى، وكما لا يمكن عزل حروب الفرنجة الماضية عن الوضع الداخلي الأوروبي وبالتالي العالمي وفق مقاييس تلك الفترة، فإنّه لا يمكن عزل حرب غزة عن الوضع الأمريكي العالمي حالياً وأهمية تنفيذ “الممر الهندي” الذي يُفترض أن يربط ما بين المحيطين الهادئ والهندي والشرق الأوسط وأوروبا، وهو “الممر” الواقع فعلياً ضمن “حملة” قائد الإفرنج الجديد، واشنطن، ضد بكين تحديداً من أجل استمرار السيطرة الاقتصادية والاستراتيجية على ثروات العالم.

يقول تاريخهم معنا، ومع غيرنا، إنّهم لا يؤمنون بعدل دولي ولا بهدنة إنسانية وما شابهها ولا يحترمون سوى لغة القوة، لذلك فلنحضّر أنفسنا لولوج المرحلة الأشد صعوبة وتعقيداً في الحرب

وبهذا المعنى أيضاً لن يكون اجتماع النرويج، التي تستضيف مفاوضات الهدنة الحالية، إلا كوعد بوهيموند لسكان المعرّة، أي استراحة قبل استكمال الإبادة الجماعية ولو بوسائل أخرى، التهجير مثلا، بموافقة بعض أطراف المفاوضات: العرب!، وهي هدنة قد تسمح أيضاً لـ”بوهيموند الجديد”، أي نتنياهو، بنقل حرب وجوده الشخصي والسياسي إلى الجبهة اللبنانية في مواجهة حزب الله، علّه يعيد بها بعض ماء وجهه المسفوح على شواطئ غزة.

قصارى القول، يقول تاريخهم معنا، ومع غيرنا، إنّهم لا يؤمنون بعدل دولي ولا بهدنة إنسانية وما شابهها ولا يحترمون سوى لغة القوة، لذلك فلنحضّر أنفسنا لولوج المرحلة الأشد صعوبة وتعقيداً في الحرب حيث تتوازى خطوط التفاوض والمواجهة مع فرق واحد مفاده أنّ التاريخ اليوم يكتبه أهل المنطقة -الذين لم يعودوا مجرد متوسلين ومتسولين للرحمة بل أصبحوا يمتلكون سيوفاً قاطعة- لا الإفرنج الجدد –ومعهم بعض من والأهم من بيننا- فقائد الإفرنج الأكبر لا يملك ترف توفير غطاء كافٍ لحرب تابعه المحلي، “نتنياهو”، لأنّه مشغول بما هو أهم، انتخاباته الرئاسية، الحرب الأوكرانية- الروسية القائمة حاليا، ومجريات الصراع القائم والقادم حتماً مع الصين.

خلاصة القول، أن يطلب نتنياهو “ضمانات دولية موقّعة غير قابلة للانتهاك” كي يقرّ الهدنة أو ينهي العدوان فهذا مؤشر لا تخطئه عين، لأنّه، تاريخيا، مطلب الضعيف لا القوي.. والأيام حبلى.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , , , , ,